كنّا صغاراً حين عرفنا لأول مرّة ماذا يعني أن تكون فلسطينياً، حين كانت جدتي تجلسنا في حضنها وتروي لنا عن فلسطين، كانت تقصّ علينا أحلامها، وتروي لنا حكايات صباها في بيت نوبا، قريتنا المدمرة في قضاء رام الله، ثم تغني لنا التهويدات حتى ننام.
لم أكن أفهم كثيراً ما الذي تعنيه جملة "القرى المدمرة" حتى كبرتُ قليلاً، ففهمت معنى أن تكون من قرية مدمرة، أن تكون من القرى التي دُمرت وهُدِّمت فوق رؤوس أهلها، وهُجِّروا منها، تخيلتُ أجدادي يحملون أوراقهم و"بكجهم" ويعبرون إلى جسر الملك الحسين، يتركون قلوبهم في بساتين الخروب والزيتون، يخلعون أجسادهم من أرضهم ويمرون مجبرين إلى مخيمات اللجوء.. يمكنني أن أسمع نواح النساء الراحلات عن بيوتهن وبلادهن، ويمكنني أيضاً أن أرى القهر في عيون الرجال المهجّرين.
هذا ما ورثناه عن أجدادنا الفلسطينيين، إنها مرارة اللجوء وجرح الوطن العميق، ورثناه أباً عن جد، ونورّثه لأطفالنا طفلاً وراء طفل، هذه ثروة الفلسطينيّ المهجّر كلّها، الفلسطينيّ الذي لا يملك رقماً وطنياً فلسطينياً، ولا جواز سفرٍ فلسطينيّاً، لا جرح على جبينه جراء اشتباكٍ أو اعتداءٍ من العدو، وما من دليلٍ يثبت أنه من فلسطين، لكنّه قلبه، لكنّه ألمه الكبير وجرحه الذي لا يندمل ولا يشفى، هلّا شققتم عن قلبه؟ هلّا أبصرتم دمعاته المقهورة؟ آهٍ لو تفعلون، ستعرفون ما الذي يعنيه حقاً أن يكون المرء فلسطينياً.. كبرتُ لأول مرّة في المدرسة الابتدائية حين التصقت كلمة لاجئ بي، وحين عرفتُ أن قريتي مدمرة ومهدمة حتى صارت كلّها أنقاضاً وبساتين مسروقة، وكبرتُ الآن مرّة أخرى حين نادتني بلادي فلم أستطع أن أركض نحوها لأقول: لبيكِ يا فلسطين.. لبيك يا بيت الله!
لا مرارة ولا قهر في الدنيا أكبر من قهر الفلسطينيّ الذي يودّ أن يعطي روحه فداءً للمقدسيين، وللشيخ جراح، ولغزة، لكنه لا يعرف كيف يعطيها، من يرغب بأن يسير ولو حافياً إلى فلسطين لكنه يجد الباب موصداً أمامه في كلّ مرّة، هذا الكفّ العاجز ما قيمته إن لم يستطع أن يحمل حجراً وينتفض في بيت المقدس؟ هذه العيون الكفيفة ما قيمة ما ستبصره إن لم تكن ستحرس اللدّ والضفة الغربيّة مع الثوّار الأبطال من اعتداء المستوطنين وجيش الاحتلال؟ هذا اللسان الأخرس كيف يتجرأ على أن ينطق بأيّ بنت شفةٍ إن لم يصرخ ويغضب لأجل الأقصى؟
في رحلة اللجوء هذه تعلمنا شعار "ادرس عشان الأقصى"، لا أذكر من علمني إياه لكنّي أذكر أنه كان واحداً من الأفرقة المقدسية في الأردن، حينها تعلمتُ كيف يجاهد المسلم بعلمه وسعيه للمعرفة، وحينها تعلمتُ كيف تكون الغايات العظيمة، فدرستُ ودرّست وأنا أردد هذه الجملة، كررناها كثيراً أمام صغارنا وكبارنا: "انجح وتميّز لأجل القدس والأقصى".. فكان هذا ميداننا وعملنا، وكانت مواساةً لعجزنا وشوقنا الكبيرين، كنّا نعرف أن الثقافة مع السلاح تخوضان الحرب نفسها أمام الأعداء، وأن إنقاذ الأجيال الجديدة من الجهل غاية سامية ونبيلة نمهد من خلالها ليوم التحرير.
لكنّي اليوم أستشعر هذا المعنى، أدرك روعته وأثره، وأؤمن بأنّ لي مكاناً في الأقصى بين المصلين… صرنا نعرف أن الشعوب العربية لا تقبل أن تُضرّ فلسطين وتصمت، ورأينا أنها ما زالت غيورة على المقدسات الإسلامية وعلى إخوانها في الدين والعروبة… واليوم عرفنا كيف ينجح الإنسان لأجل بلاده، حين صارت الأرقام التي تمثلنا على مواقع التواصل الاجتماعي والمدونات الشخصية ساحة دفاع، وصارت الكلمة سلاحاً، والسكوت طعنة عار، حين صار أثرك يمتدّ ليفيد بلادك ليسمع العالم صوتها، هنا نختبر معنى أن تكون مؤثراً حقيقياً.
حين بكينا فلسطين ألماً ونصراً ونحن نتابع البث المباشر للمقدسيين وأهل اللد وغزة، حين آلمتنا قلوبنا واعتصرنا حرقةً على غزة وبكاء أطفالها، وصرخات نسائها، وقهر رجالها، مع التكبيرات والتسليم لله…
أحاول منذ أيام أن أصف الشعور العظيم الذي علّمنا إياه الشعب الفلسطيني في القدس والأراضي المحتلة وغزة الأبية وكلّ مدن وزقاق فلسطين، شعور أنّ هذا الجمع الغفير قلبٌ واحد، وهذه الأرواح الكثيرة الغالية روحٌ واحد، يسيرون للوجهة نفسها، يسلمون أرواحهم لله الواحد، ويرمون الدنيا خلفهم لأجل غاية واحدة، إنّها البطولة التي اجتمع عليها كلّ من رضع الحرية والكرامة من الأمهات الفلسطينيات الصابرات.
يا أحرار فلسطين، هلّا أخذتموني معكم للنضال؟
إنّه الشوق للأشياء التي لم نختبرها يوماً، لملمس الحجارة بين الأيدي الناعمة، للركض في ساحات فلسطين، للدفاع عن المظلومين أمام الظالمين، لبسمة نصرٍ، وللرباط في بيت المقدس والدعاء لغزة الحبيبة.
شهدتُ هذا كلّه وأنا أجهز أبحاثي لتسليمها لأساتذتي، هاتفي بجانبي أشاهد من خلاله ما يحدث في فلسطين، والكتب والأوراق على الجهة المقابلة، ثم لاحظتُ أن أبحاثي هذا الفصل تدرس أعمالاً فلسطينيةً تتحدث عن القضية الفلسطينية وهزيمة يونيو، حينها تذكرت شعار: "ادرس عشان الأقصى"! وجددتُ إيماني مرّةً أخرى بأنّ كلّ شخصٍ منّا يجاهد في ميدانه الخاص، جهادي أن أستعمل ما أعلمه في الأدب والنقد فيما يخدم قضيتي وبلادي، جهادي أن أصرخ بالكلمة في المكان الذي أُسمَعُ فيه.
ثم جاء العيد، ارتدينا ملابس العيد، وجهزنا أنفسنا لتعظيم شعائر الله، ثم جلسنا في بيوتنا وبيوت من نعايدهم نشاهد البث المباشر لأهلنا في فلسطين، ننشر وسوم الدعم (الهاشتاغ) ونصرخ هنا وهناك: أنقذوا حي الشيخ جراح، وأنقذوا غزة.. لكنّ شوكةً ظلّت عالقة في أعناقنا فخرج أهل الأردن بغضبٍ وحزنٍ للشوارع من كلّ المحافظات، فلم يكفهم هذا ولم يشفِ صدورهم، فاستمروا بالسير وهم يصرخون: "على القدس رايحين، شهداء بالملايين"، نعرفُ أنهم عادوا من الحدود إلى بيوتهم، وندرك أنهم لن يدخلوا فلسطين لأنّ الرصاص سيسبقهم، لكنّنا نؤمن الآن أنّه لا يمكن للأردن وفلسطين -كشعبين- أن يكونا شعبين اثنين، شاء من شاء وأبى من أبى قد عاد الأخوة العرب إلى بعضهم، وارتدّ إليهم الغضب والألم الواحد: ألمهم على القدس وغزة، وعلى بلدنا المسلوب منّا، عادت الضفتين.
الجسر الذي عبرناه لاجئين، قد عبرناه مجدداً مع الأردنيين غاضبين متحدّين متحابين، هذا الجسر الذي عبره أجدادنا وآباؤنا بالصمت الحارق، والعجز الظالم، قطعناه من الجهة المقابلة يداً بيدٍ مع أهل البلاد التي صارت بلداً لنا… لهذا الجسر حكايات كثيرة، رغبات كثيرة، ولي رغبة واحدة أرجوها منه، أن يمررني إلى فلسطين، أن يقذفني إلى المسجد الأقصى، أن يسمح لي بأن أشارك في الدفاع عن بلادي، وأن يلمّ حسرة النكبة والتهجير عني، هذا الخط الرفيع الذي يفصل بيني وبين فلسطين، أودُّ أن أعبره لأصل لحي الشيخ جراح وأرابط في وسطه لئلا يسرقوه ويحتلوه كما فعلوا بقريتي، وأن أشارك برفض أن يسكن المحتلون في وسط القدس، أن أكسر يد من يسرق بيتاً لم يبنِ أرضه ولم يرمم جدرانه، وأن أحرق حقلاً زرعه أخي ليحصده قاتله ومحتله.
أيّها الغاضبون الأشراف من كلّ بقاع الأرض، لا ترضوا، ولا تُطبّعوا، ولا تنسوا… إخوانكم في غزة يحتاجونكم، أهلكم في القدس وفلسطين ينتظرونكم، وعلموا أولادكم ألّا ينسوا غضبهم وغيرتهم على فلسطين أبداً.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.