قراءة لكتاب المعرفة والأيديولوجية والحضارة.. محاولة لفهم التاريخ

عربي بوست
تم النشر: 2021/06/22 الساعة 12:10 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2021/06/22 الساعة 12:14 بتوقيت غرينتش
istock

صدر حديثاً عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت، كانون الثاني/يناير 2021، كتابٌ فكري بعنوان: "المعرفة، الأيديولوجية، والحضارة: محاولة لفهم التاريخ"، لأستاذ العلوم السياسية والدراسات الدولية في جامعة بيرزيت، علي الجرباوي (مدير معهد إبراهيم أبو لغد للدراسات الدولية في جامعة بيرزيت). 

يقع الكتاب في 376 صفحة من القطع المتوسط، ويحتوي على مقدمة وخمسة فصول وخاتمة، إضافةً لقائمة مصادر ومراجع بالعربية والأجنبية لمفكرين الأكثر شهرة في حقلي العلوم الاجتماعية والإنسانية. يتناول الجرباوي في هذا الكتاب موضوعاً فكرياً قد شغل تفكيره منذ بدايات التحاقه بجامعة سينسيناتي في الولايات المتحدة الأمريكية عام 1981، للحصول على درجة الدكتوراه في العلوم السياسية. 

تقوم هذه الفكرة على معرفة أسباب تقدّم الأمم وتأخر الأمة العربية عن الركب الحضاري. فبدأ بدراسة تاريخ الحضارات، والثقافات، والفكر السياسي والاجتماعي لأعظم مُفكري العصر القديم، والحديث. وقام بتفنيد نبوءات بعض من مُنظّري الحضارة الغربية المعاصرة، كصموئيل هنتنغتون وأطروحاته (صدام الحضارات)، وفرانسيس فوكوياما (نهاية التاريخ)، بُعيد انهيار الاتحاد السوفييتي وانتهاء الحرب الباردة في مطلع تسعينيات القرن الماضي.  قامت هاتان الفكرتان على أن التاريخ الحضاري ابتدأ بالتزامن مع صعود الحضارة الغربية في القرن الخامس عشر ميلادي، وسينتهي عند الحضارة ذاتها. يُجادل الجرباوي في فصول كتابه بأن "التاريخ خطّ زمنيّ متّصل لا ينقطع، تتوالى تفاعلاته وأحداثه تباعاً نتيجة هذه العلاقة المستمرة والمتواصلة، التي يُعبَّر عنها بتكوين ثقافاتٍ محلّيّة يتحوّل بعضها إلى حضاراتٍ عالمية".

يُقدّم الجرباوي في هذا الكتاب إطاراً نظرياً لفهم ماهيّة الحضارة وكيفية نشوئها واندثارها. كما يُعنى إطاره النظري والذي خُصّصَ فصلٌ له، لفهم مسار التاريخ البشري، عبر ربط ثلاثة عناصر رئيسية في التفسير، هي: المعرفة، والأيديولوجيا، والحضارة.  تكمن أهمية هذا الكتاب في كونه بحثاً علمياً وصفياً لحركة مسار التاريخ منذ تسجيل الوجود البشري، قبل آلاف السنين، وحتى وقتنا الراهن.  يقوم على محاولة لفهم مسار التاريخ عبر ربط علاقة تراكم المعرفة المادية عبر الزمن، الناجمة عن استمرار تفاعل جدلية علاقة الإنسان مع البيئة وعلاقته مع غيره من البشر، ونوع الأيديولوجيات. 

يُعالج الكاتب في فصله الأول الذي جاء بعنوان: "بتر التاريخ"، فكرة أساسية مفادها أن التاريخ البشري ابتدأ مع بدء تدوين وجود الإنسان على كوكب الأرض، ومازال حتى يومنا هذا، يُمارس دون انقطاع التطور التراكمي للمعرفة المادية، ولاحتياجاته الإنسانية والعلمية والحياتية. ويوضّح في صفحات هذا الفصل أن ظاهرتي العصرية والحداثة، ومفهومي العلمانية والعولمة؛ قد توالت تاريخياً بالتراكم والممارسة الإنسانية، وارتبطت بمدى تطور الإدراك البشري، والتقدم الحضري. أما بتر التاريخ فهو ادعاء غربي انتقائي وتعسفي، يربط التاريخ بالغرب، منذ بضعة قرون مضت، للترويج لما سماه الجرباوي "الغربنة".

جاء الفصل الثاني تحت عنوان: تدحرج التاريخ، ويحاول فيه المؤلف إعادة التاريخ لسياقه الزمني، عبر استعراض مكثّف ومختصر يتتبع كيفية تطوّر جدلية العلاقة التي تربط الإنسان مع البيئة، ومع الإنسان. ويشرح أيضاً أهم النظريات المُفسرة لحركة الإنسان ومتطلبات استمراره. ومن أهم النظريات الحديثة ذات الصلة بالفكر الإنساني: نظرية العقد الاجتماعي التي تُفسّر نشوء مؤسسات الحكم (الدولة)، والآليات والأفكار المرتبطة بها؛ كالإرادة العامة، والحرية، والسلطة المطلقة. ويُعد توماس هوبز وجون لوك وجان جاك روسو وتشارلز داروين وكارل ماركس من أشهر من عالج وفسّر الجانب الاجتماعي والفكري للإنسان، والتي يُطبق معظمها في أدبيات وبرلمانات بعض الدول. ويستنتج الكاتب أن التاريخ هو تسجيل وتحليل وفهم للأحداث المتعلقة بشأن ما، بارتباطها بخط الزمن.

أما الفصل الثالث فجاء بعنوان: الحضارة، ولعل الفكرة الجوهرية والأهمية المُضافة لخلاصات إشكالات النقاش المُضني بين مفكري العصر القديم، الحديث، والمعاصر؛ يتمحور حول ماهيّة "الحضارة"؟ فمن حضارات متعددة في عصرٍ واحد إلى حضارة واحدة في عصرٍ واحد. ولن نُعرّف الحضارة دون معالجة مفهوم "الثقافة"، "لأن بينهما تداخلاً وتقاطعاً يجعلهما مترابطين"، (ص 128). تمر الثقافة بمراحل نشوء وتتكون من عوامل: المعرفة، والإيمان، والأخلاق… إلخ، وتتشكل ثقافة أي جماعة بشرية من: معتقدات، ورؤى، وبنى سياسية، قانونية، واجتماعية (ص 129). أما الحضارة وإن تقاطعت مع الثقافة في المفهوم، إلا أن الالتباس كان حاضراً في الأدبيات الموضحة للتعريفين. وفي المجمل هنالك منحيان في محاولة التفريق بينهما، الأول ركّز على الظواهر والظروف لكلتا الحالتين، مع ثلاثة اتجاهات في هذا السياق:

1. الحضارة تأتي بالانتقال من حالة عيش الإنسان من البدائية إلى الرُقي. 2. الحضارة تحتاج لنشوء المدن. 3. الحضارة أوسع من الثقافة جغرافياً وبشرياً وهي جامعة لثقافاتٍ عدة. 

المنحى الثاني ركز على المضمون؛ إذ قدّمت المدرستان الفرنسية والألمانية تصوراً متبانياً وشديداً حول المفهومين، فالأولى اعتبرت أن الحضارة أسمى من الثقافة لكون الأخيرة تعبيراً عن التهذيب السلوكي للإنسان. أما الثانية فتبنت الثقافة كإطار يحافظ على تماسك الأمة. وخلص الجرباوي إلى أن التعريفين متداخلان ووثيقان ببعضهما البعض، فلا حضارة دون عامل الثقافة في صعودها، وأن "… الحضارة أُسقطت بأثر رجعي على تجارب تجمعات بشرية…" (ص 132)، التي هي أقرب للثقافة من الحضارة. فـ"الحضارة الفرعونية" لم تخرج عن نطاق الدولة المصرية (المعروفة حالياً)، لذا فهي ثقافة وليست حضارة، أو "حضارة متموضعة". لكن الإغريق، مثلاً، بتوسعهم ضمّوا ثقافات عدة وأنتجوا حضارة عالمية بكل مقاييس التعريف.

في فصله الرابع "توالي الحضارات"، ينطلق الجرباوي من إشكالية: "يبدأ التاريخ والحضارة مع صعود الحضارة الغربية منذ 6 قرون خلت"، ليستعرض تاريخياً مسيرة الحضارات المتموضعة والتاريخية. "الحضارات المتموضعة" هي السومرية والبابلية والآشورية والمصرية والصينية والهندية، إضافةً لحضارات أمريكية جاءت متأخرة كالمايا والآزتك والإنكا. وتوصل إلى أنها كانت ثقافات مزدهرة  قدّمت للبشرية إبداعات لا يزال العلماء يبحثون في سرّها. انتمت هذه "الحضارات" لحقبة زمنية واحدة تعود إلى آلاف السنين ما قبل الميلاد، ولكنها لم تتحول لحضارات عالمية، وكانت نهرية، أقدمها السومرية واختراع الكتابة المسمارية، تليها البابلية وإرثها الحمورابي وشريعته، ثم المصرية وتطورها السياسي والهندسي والمائي، والهندية وغموضها، فالصينية وانعزالها وتراثها الفلسفي. بناءً على ذلك ينحصر مفهوم الحضارة بأربع حضارات رئيسية، هي: الإغريقية (اليونانية)، الرومانية، العربية الإسلامية، والغربية.

المعرفة، الأيدلوجية، والحضارة: محاولة لفهم التاريخ

أما الفصل الخامس والأخير فجاء بعنوان: نحو إطار نظري، الذي جاء لفهم مسار التاريخ البشري، ويستنبط من خلال تتبع مسارها ومسيرتها (الحضارات) خمسة استنتاجات تساعد في إنتاج إطار نظري "عام وناظم لمسار التاريخ البشري"، (ص 272). 

1. التعاقب محل التعاصر، لا يمكن أن تتواجد حضارتان عالميتان في حقبة زمنية واحدة. التنقّل التفاعلي، حيوية الحضارة. عندما ينتقل "مركز ثقل الحضارة من مكان إلى آخر يجعل منها السبيل الذي يُنعشها ويُطيل من أمد ازدهارها، ويجعل منها حضارة عالمية رائدة"، (ص 274).

2. التنقّل التفاعلي، حيوية الحضارة، وهذا ما يجعل الحضارة تتميز عن الثقافة.

3. كل حضارة تأتي وتسود؛ لا بدّ أن تكون متفوقة على سابقتها من الحضارات في المراكمة المعرفية، ولعلها شرط لمجيء أي حضارة لإزاحة الحضارة القديمة عن موقع الصدارة.

 4. لا يمكن تعاقب حضارتين متتاليتين في الموقع نفسه، وعند الجماعة البشرية ذاتها.

5. من الخطأ الفادح في دراسة ظاهرة العولمة تزمين انفجارها إلى ثمانينيات القرن الماضي، أو إلى أقدم بقليل في العصور الوسطى، لأن هذا الكتاب جُلَّ فكرته الرئيسية تقوم على دراسة وتتبع التاريخ منذ آلاف السنين، والتوصل لاستخلاصات تتضمن أن الأشياء والأفكار قديمة قدم الإنسان، تتسلسل بشكلٍ انسيابي، تراكمي، معرفي. 

وبالتالي، فإن العلمانية، العولمة… الخ، ليست مقرونة بالعهد الغربي! إنما جاءت نتيجة للتراكم والتجارب البشرية، ومن نافلة القول أن الحضارة الغربية الحالية هي الأكثر تقدماً وازدهاراً، لكنها لم تأتِ دون إبداعات القدامى، وفضل من سبقهم، إغريق، رومان، ومسلمون. 

أما الخاتمة، فكانت نظرة مستقبلية تتنبأ بأن الثقافة الصينية هي الوحيدة التي تمتلك المقومات الضرورية لتحدي الحضارة الغربية، وإنتاج حضارة بديلة تحلّ محلها، وتُنبّه إلى أن انبثاق وصعود الحضارة الصينية سيكون شأناً أكثر تعقيداً وصعوبة، وسيتطلب وقتاً أطول بكثير، مما تحتاج له الصين لبلوغ قمة النظام الدولي في العقود القادمة. 

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

حذيفة حامد
كاتب فلسطيني مهتم بمسألة التحول الديمقراطي في العالم العربي.
كاتب فلسطيني مهتم بمسألة التحول الديمقراطي في العالم العربي.