على غرار المثل العليا الأفلاطونية التي يسعى الإنسان لها، تتمثل شخصية المنقذ، حيث يتأمل الإنسان حالاته الأضعف وسط ظلمات الحياة، وينظر للسماء عسى أن تُنزل عليه مسيحاً مخلصاً يُخرجه من الظلمات إلى النور، وعلى هذا المثال أصبحت شخصية المنقذ بالنسبة لبعض البشر كأنها لمسة تتفضل بها "آلهة أولمبس" علينا فتجعلنا ننسى آلام الماضي وكأننا لم نر شراً قط.
ومن هنا وفي فيلم Tusk الصادر عام 2014 يتمثل المنقذ في صورة حيوان فظ سمين بأنياب بيضاء لامعة فوق لوح من الجليد للسيد هاورد بعد غرق سفينته، يضم الفظ جسد هاورد البارد الموشك على الموت ليدفئه، فيشعر الرجل المسكين بدفء الحب للمرة الأولى في حياته، وداخله تتشكل مشاعر التقديس للحيوان الذي منحه الحياة ولكن بمرور الوقت وبعد انتصار الجوع، يجد هاورد نفسه وقد قتل منقذه، نظر هاورد للحيوان الميت وقد أكل بعض لحمه، تأمل الدماء التي غطت أصابعه وصرخ في وجه منقذيه من البشر، وحينها يقرر أن يعيد بعث منقذه للحياة.
الفيلم
خلال عام 2014 صدر فيلم الكوميديا السوداء والرعب Tusk للمخرج والكاتب كيفين سميث، حيث قرر أن يقدم للجمهور قصة استثنائية تحمل قدراً لا بأس به من الغرابة.
تحكي قصة فيلم Tusk عن والاس برايتون مقدم البودكاست الساخر الذي يقرر الذهاب لكندا ليحصل على مقابلة مع فتى بائس حصل على ملايين المشاهدات على الإنترنت حينما قطع ساقه بالخطأ بينما يمارس بعض الحركات بسيف الكاتانا.
حين يصل والاس إلى منزل الفتى يفاجئه القدر بانتحاره، فيقرر أنه لن يعود إلى الولايات المتحدة قبل الحصول على مقابلة ساخرة مع شخص غريب الأطوار، وهنا يمارس الكون لعبته فيعثر والاس في حمام حانة على ورقة تمت كتابتها بخط اليد لرجل يقول إنه عاش كثيراً وتحمل ذاكرته مئات من القصص الغريبة التي مر بها خلال مغامراته، فيقرر والاس أن هذه فرصته المناسبة ليحصل على المقابلة.
حين يصل والاس لمنزل الرجل المنشود بين غابات كندا، يقابل هاورد هوي الرجل المقعد على كرسي متحرك، والذي يبدو لطيفاً ولبقاً في البداية ولكن سرعان ما تتحول الأحداث حينما يسرد هاورد قصته مع حيوان الفظ الذي أنقذه من التجمد حتى الموت والذي قرر تسميته السيد "تاسك"، ثم يبدأ المنحنى المرعب باتخاذ مجراه حين يفقد والاس الوعي ويجد نفسه وحيداً بلا قدم مع رجل عجوز مجنون يحاول تحويله إلى حيوان فظ يطابق صديقه "Tusk" في محاولة بائسة لإعادة منقذه المنشود من الموت.
ماذا أراد مخرج Tusk؟
في البداية كان فيلم Tusk مجرد محاولة ساخرة من المخرج سميث لإنتاج سيناريو مرعب من إعلان تحدث عنه في البودكاست الخاصة به حول رجل عجوز يعرض إقامة مجانية في منزله مقابل أن يرتدي الضيف بزة حيوان الفظ.
وبالطبع كان فيلم Tusk فنياً متواضعاً، ليس أكثر من مئة دقيقة من الرعب المعنوي الممزوج باللحظات الكوميدية المتواضعة، والتي أصبحت واضحة بعد ظهور الممثل جوني ديب على الشاشة في دور المحقق المهووس، ولكن تواضع الفيلم لم يمنعه من الحصول على بعض الاستحسان من النقاد الذين أدركوا أنه ليس سوى فيلم ساخر مسلٍّ، وربما يحمل بعض المفاهيم المرعبة الحقيقية بين لحظاته، كعملية التحول من إنسان إلى حيوان على سبيل المثال.
وبالفعل استطاع فيلم Tusk إظهار عناصر التحول الوحشية والتي تتمثل في راديكالية عملية التعذيب وزراعة الأفكار داخل عقول الضحايا والتي يمارسها المجرمون والقتلة المتسلسلون، حتى تتملكهم في النهاية حالة الصدمة، فيتحولون بفعل وحشية خاطفيهم أو قاتليهم إلى كيانات غير عاقلة فقدت كل ما كان بها من آدمية.
عن فكرة المنقذ
خلال عملية سرد القاتل المتسلسل العجوز هاورد هوي لقصته التي قابل في نهايتها منقذه الحيواني، من خلال فيلم Tusk، نكتشف ماضياً مؤلماً يكشف عن كمية الآلام المكنونة داخل ثنايا الحضارة الإنسانية، فالسيد هاورد حينما كان طفلاً فقد والديه بسبب قطاع طرق، فتحول من طفل عادي تحتويه عائلته إلى مجرد يتيم يعاني فقر الحب والاهتمام بين أقرانه.
ثم لا ينتهي بؤس السيد هاورد هنا، فالدولة قد قررت تخفيض الميزانية عن طريق التخلص من ملاجئ الأيتام وضمها إلى المصحات العقلية، وهناك يعاني هاورد من كابوس حقيقي ظن أنه لن ينتهي، هناك يعاني هاورد الطفل من الاعتداءات الجنسية المستمرة من رفاقه المرضى والممرضين والممرضات على السواء، ثم يعاني من تجارب الأطباء النفسيين الذين أرادوا تدمير المتبقي من وعي داخل عقله.
وبعدما ينمو جسده ويصبح شاباً قوياً، وبمجرد أن ظن انتهاء الكابوس، تأخذه الحرب العالمية بين صفحاتها فتصفعه أمواجها يمنة ويساراً قبل أن تغرق سفينته أخيراً.
عند هذه اللحظة، كان مفهوم العالم قد تشوّه في رأس هاورد الشاب، فجميع البشر بالنسبة له مجرد وحوش حيوانية، تسعى فقط لإشباع رغباتها عن طريق استغلاله، لم يرَ هاورد حناناً أو حباً قط، لم يلمس دفئاً أو اهتماماً من إنسان.
لذا حينما نجا من الغرق، وصعد على لوح الجليد ليقابل منقذه، حيوان الفظ، رأى شيئاً آخر، فالحيوان ضمه إليه، منحه الدفء، ومنحه الحب، وكذلك منحه الاهتمام، وبين هذه اللحظات وسط الموت والحياة، أدرك عقل هاورد المريض حقيقة أخرى، أن الحيوان أكثر إنسانية من البشر، بل الحيوان هو منقذه، مسيحه المخلص، وملجأه، هو الإنسان الحقيقي، أما من قابلهم طوال حياته بعد موت والديه، فهُم فقط وحوش.
ولكن في مشهد مأساوي تتغلب الطبيعة الحيوانية المتمثلة في الجوع على هاورد، يقتل منقذه الوحيد كي يلتهم لحمه ويحافظ على حياته، ثم يتكرر مشهد الصلب، وعلى غرار قصة "المسيح يصلب من جديد" لنيكوس كازانتزاكيس، يقف هاورد بجوار جثة منقذه الميت، كما وقف أهل لوكفريس بجوار جسد مانولي الميت، وكما وقف أهل القدس بجوار جسد المسيح الميت.
يتكرر المشهد بلا نهاية، كل إنسان يقتل منقذه، وكل بشر يقتل مخلصه، ولكن في قصة هاورد، حيوان الفظ ليس مسيحاً سيعود آخر الزمان، لذا قرر أن يعيده بنفسه وبيديه الآثمتين إلى الحياة، حيث عليه فقط أن يصطاد البشر ويحولهم إلى صديقه ومنقذه السيد "تاسك".
في النهاية حينما نجرد فيلم Tusk إلى أبسط أفكاره، نجد أنفسنا أمام إحدى أكثر التجارب الإنسانية قِدماً في التاريخ، وهي تجربة البحث عن المنقذ المخلص، فجميع البشر يحتاجون إليه، حتى هاورد القاتل المتسلسل.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.