لطالما سيطرت فكرة الدولة الغربية المثالية الراعية للسلام على حقل دراسات العلاقات الدولية، وكانت المركز الذي تدور في فلكه الكتابات والأبحاث، رغم أن الواقع أثبت عكس وانتفاء تلك المثالية في كثير من الأحيان، لهذا قليلاً ما نجد كتابات متداولة عن التنظيم السياسي والإداري للدول الإسلامية والعربية.
ومن بين أبرز أمثلة التنظيم السياسي والإداري دولة الأمير عبدالقادر في الجزائر.
عبدالقادر بن محيي الدين بن مصطفى، وُلد في مدينة "معسكر" غربي الجزائر، يُعتبر مؤسس الدولة الجزائرية الحديثة، كان لأسرته والوسط الذي ترعرع فيه دور بارز في تكوين شخصيته، حيث نشأ نشأةً دينية، فاطلع على علوم اللغة والتفسير والفقه وحفظ القرآن ودراسة الحديث والفلسفة والجغرافيا.
انبثقت دولة الأمير عبدالقادر من إرادة شعبية تامة، حيث لم ينل منصبه -أي رئاسة الدولة- عن طريق الوراثة أو التزكية أو القوة، بل تقلّد منصبه على أساس الشورى، بعد أن تمت مبايعته والإجماع على أنه الأحق بتولّي السلطة.
فور توليه الحكم بدأ الأمير عبدالقادر في تأسيس أركان الدولة، ووضع استراتيجية لبناء دولة النظام والعلم والقوة، حيث أسَّس الحكومة المركزية ومجموعة وزارات، وقسَّم الدولة إلى مقاطعات ودوائر، ولكن كانت طريقة الإدارة لا مركزية، فكان يعطي كامل السلطة للموظفين للتصرف، وهذا لم ينتقص أبداً من سلطته، لأن كل أمور التسيير كانت وفق نمط الشورى.
فأنشأ مجلس شورى مكوناً من كبار العلماء والأعيان، وكان يتفحص في اجتماع هذا المجلس الطعون وحكم القضاة والأمور المستعصية الحل، ويذكر السياسي عبداللطيف بن أشنهو أن "الأمير لم يكن أبداً يتخذ القرار ببساطة، وكان دوماً يستشير المجلس الذي يترأسه، وفي معظم الحالات كان القرار يعكس صدى الرأي العام".
أبرز أفكاره هي طريقة اختيار الموظفين والقادة، حيث يشترط فيهم الذكاء والكفاءة والعلم، حيث كان أغلب الموظفين من زعماء القبائل والأعيان والعلماء وأصحاب المكانة المرموقة.
وقال ابن الأمير عبدالقادر في هذا الخصوص "ولما كان غاية قصد الأمير ربط البلاد بالإدارة الشرعية لم يستخدم في جميع أعماله إلّا من اشتهر بمعرفة الأحكام وعُرف بالعفاف والإقدام، وأبعد غالب العمال أرباب التقدم والنفوذ في أيام الحكومة الجزائرية (يقصد حكومة الأتراك)، واستخدم في إدارة الأمور من كان ذا حزم وقوة وشكيمة من ذوي البيوت المشهورة بالعلم والفضائل وحسن السياسة. وكان يحلفهم على صحيح البخاري ألّا يعدلوا عن الحق، وأن يكونوا صادقين في الخدمة مع الأمير والرعية".
وكان كل موظف من أسمى قائد إلى أبسط شيخ يتمتع بكامل الصلاحيات الإدارية والعسكرية بتفويض من الأمير، كما اهتم بالفصل بين السلطات، حيث فصل بين السلطة القضائية والتنفيذية، حيث كان القاضي شخصية مهمة، يتم اختياره بدقة متناهية.
ولا يمكننا أن نتحدث عن دولة بكل هذه الصفات دون الحديث عن الركن العسكري والاستراتيجي، رغم أن قيام دولة الأمير عبدالقادر كان في فترة حرجة، وفي وضع متأزم، إلّا أنه كان متيقناً أن القوة الصلبة أساسية لحماية هذه الدولة.
حيث أنشأ جيشاً نظامياً، واهتم بتدريبه على أحدث الفنون العسكرية، وقسم الفرق العسكرية إلى فرقة المشاة، التي ولّى على قيادتها من مشاهير الأبطال قدور بن بحر، وفرقة من الخيالة، وولّى على قيادتها عبدالقادر بن عز الدين، وفرقة من المدفعية، وولّى على قيادتها محمد السنوسي.
حاول الأمير عبدالقادر أن يقدم للجزائريين دولة القانون والسلام التي يستحقونها، واضطرت فرنسا أن تعقد اتفاقيات هدنة معه، لتكون بهذا اعترفت بدولته، ولكن لم تمر فترة طويلة إلّا وقد خرق القادة الفرنسيون الهدنة، وبدأوا في تجميع كل قواهم لمحاربة الأمير عبدالقادر، وتوالت المعارك التي انتصر في العديد منها الجيش الجزائري، إلّا أن قوة المقاومة لم تكفِ للتصدي، فكان لابد من الاستسلام حقناً لدماء المجاهدين.
المراجع:
- عبدالهادي حسين، الإدارة في دولة الأمير عبدالقادر، مجلة القرطاس، العدد السابع، 2017.
- عبدالقادر دوحة، التأسيس الدستوري لدولة الأمير عبدالقادر، مجلة المواقف للدراسات والبحوث في المجتمع، 9 ديسمبر 2014.
- علي الصلابي، الأمير عبدالقادر الجزائري وبناء الدولة الجديدة، مدونات الجزيرة، 26 أغسطس 2018.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.