كثر الحديث هذه الأيام عن وحدة التنسيقيات التعليمية وسبل تجسيدها على أرض الواقع بعد التطورات الخطيرة الناجمة عن الكبت الذي تعرضت له فئات واسعة منها في الأشهر القليلة الماضية، وحيث إن الفاعل الأبرز في الساحة حالياً هو التنسيقيات التي أصبحت تستحوذ على جل نضالات نساء ورجال التعليم، فإن الكرة في ملعبها لإعادة اللحمة بين مختلف مكونات الجسد التربوي؛ إذ لا يمكن أن يتحقق هذا الهدف إن لم يحدث التوافق بين هذه المكونات الفاعلة.
لا شك أن هناك إكراهات عديدة تعترض أي تقارب بين تلك التنسيقيات، منها ما هو متعلق بطبيعة مطالب كل تنسيقية، ومنها ما هو متعلق بأحجامها، ومنها ما هو مرتبط بأساليب اشتغالها، كل هذه وغيرها تشكل عقبات تجعل التقارب بين هذه المكونات مجرد كلام فضفاض للاستهلاك الإعلامي، وتبقى الخطوات السائرة في اتجاهه محتشمة ولا تخلو من سيادة الحساسيات ومن التشكك في النيات والخوف من استئثار فئة على حساب الأخرى، وهذا ما جعل التجارب السالفة غير مشجعة والانطباع حولها سلبياً ولا يحفز للمضي في اتجاه الوحدة أو التنسيق بين مناضلي تلك التنسيقيات.
من المطالب العامة إلى الجزئية
الحقيقة أن الشغيلة التعليمية أسيرة عدد من المسلمات التي تم ترويجها منذ سنوات لتتحول إلى قناعات راسخة في صفوفها والتي جعلتها تظن أن قوتها في ضعفها وفي تشرذمها، في معادلة غريبة لا تستقيم لا عقلاً ولا ممارسة، وهو ما شجع على تحويل مطالبها العامة إلى مطالب جزئية فئوية؛ بحجة أن هذا أقرب لتحقيقها من كثرة الاشتراطات غير مضمونة العواقب على وزارة التربية والتعليم وعلى الدولة المغربية والتي قد تعود على إثرها بخفي حنين.
لكن ما يحدث عملياً أن الفئات المحتجة تستنزف نفسها من أجل مطالب محدودة، غير أنها بعد أن تعود لعملها الروتيني تجد ظروفها وأوضاعها العامة قد ازدادت رداءة دون أن تملك القدرة على تصحيحها؛ لأنها شلت حركتها حين تقاعدت مبكراً من عملها النضالي. فهي منذ البداية فضلت تحسين ظروف الزنزانة وشروط المكوث فيها على الخروج منها؛ ليستغل ذلك السجان الذي يعطيهم بيد ما يأخذ أضعافه بعد ذلك باليد الأخرى.
ليس قصدنا العودة إلى الوراء، فواقع النضال الفئوي اليوم أصبح متجذراً، ومن العبث رفضه؛ فهو الأنجع مقارنة بغيره، خصوصاً أن أنصاره هم أكثر من ينشط في الميدان وهم الذين يقدمون التضحيات الأبرز، لكنه يحتاج إلى استثمار نقاط قوته وإلى تهذيبه والخروج به من تقوقع فئاته حول الذات التنظيمية المغلقة، وذلك باعتباره النافذة الوحيدة المتاحة لتحصيل الحقوق.
تعارض وهمي
نحن بحاجة لسحب ذلك المزاج المتطرف الذي لا يرفض الوحدة العضوية فقط وإنما يتجاوز ذلك إلى رفض أي شكل من أشكال التنسيق بين تلك التنسيقيات، فالكيان الكبير يخاف من استغلال الكيانات الصغرى له والكيانات الصغرى بدورها تخاف من أن تذوب ويتبخر حجمها أمامه وألا تركز التغطية الإعلامية إلا عليه، وأحياناً يسهم التباعد الأيديولوجي والاصطفاف السياسي والنقابي لبعض قيادات التنسيقيات في الدفع باتجاه التنافر، كما أن إقحام بعض الأدوات والوسائل غير النضالية عند بعض المجموعات أدى إلى إحداث فرز بين تنسيقيات مناضلة وأخرى منتحلة للصفة، بين تنسيقيات تعمل على النضال الحقيقي وبين تنسيقيات تتسول حقوقها وتظن أن استرجاعها لها ممكن برسائل الاستعطاف إلى المسؤولين أو بالتصويت الانتخابي العقابي أو بغيرها من الأدوات الناعمة، والنتيجة المنطقية ألا يرى الطرفان أي مشترك بينهما.
هناك أيضاً من يخلق تعارضاً وهمياً بين مطالبه ومطالب غيره فيقرر، متماهياً مع الدعاية الرسمية، أن الدولة غير قادرة على الوفاء بمطالب عموم المحتجين عليها، وبدل التركيز على تحقيق ملفه المطلبي فإنه يهاجم باقي التنسيقيات ويعاديها ويعتبر أن نجاحها يشكل ضرراً عليه كأنه هو من سيدفع فاتورة تسوية ملفاتها من جيبه. فيما أن الصواب نقيض ذلك، فكلما تمكنت فئة من فك الطوق عن نفسها وانتزعت حقها فإن هذا يمثل حافزاً لغيرها للنسج على منوالها، ذلك أن التجارب النضالية الناجحة هي مغناطيس جاذب للحركة الاحتجاجية، كما أن الانسداد والفشل بالنسبة لأية تنسيقية يضر بمصلحة الشغيلة برمتها.
الأصل أن من أجهز على الحقوق الأصلية قادر على إعادتها لكل ضحاياه في أي وقت، فلن تعدم الدولة التخريجات للقطع مع كل ممارساتها العدوانية تجاه الشغيلة التعليمية مثلما صنعت في 20 فبراير/شباط، حين تمت حلحلة عدد من الملفات التي وصفت وقتها بالمعقدة في غمضة عين. ذلك ألا وجود لملف معقد من الملفات المستحقة، ولا حق للدولة بعدم الالتزام بمسؤولياتها عبر التحجج بالضغوط الخارجية، وهي التي تتغنى اليوم بالسيادة الوطنية أو بالكلفة المالية التي تغدق على خدامها بالريع؛ الشيء الذي تسبب في تأزيم الفئات الهشة وفي استهداف جيوب الفقراء والطبقة المتوسطة من أجل التغطية على امتيازات علية القوم اللامتناهية.
لا ينبغي أن ترفض أية تنسيقية التعاون مع غيرها على أساس اعتقادها بسهولة الاستجابة لمطالبها خلافاً لغيرها من أصحاب الملفات المستعصية، فكم من الملفات البسيطة ظاهرياً تم تجاهلها من طرف الدولة بسبب سيادة هذه الذهنية العقيمة التي تورث تثاقلاً في الفعل النضالي الميداني، في حين استجابت الدولة لمجموعات اعتُبِرَ رضوخها لها من سابع المستحيلات بفعل عناد أصحابها وصمودهم.
خاتمة
وحدة التنسيقيات تخدم مطالبها وتسرع من وتيرة تحقيقها وتخفف الضغط على مختلف الشرائح التعليمية وتردع الدولة؛ حيث تمنعها من الاستفراد بها والتعامل معها بمنطق الطوائف الذي يوفر لها أرضية مثالية للتنكيل بها، خصوصاً مع اتجاه السلطوية نحو الصراع الصفري مع كل المناضلين في الساحة. ولنا في تجربة قطاع البريد الوحدوية وفي تجارب نضالية عربية كما في تونس والأردن الدليل الواضح على أن الإجماع متى انعقد يصنع المعجزات. فحتى إن لم تتمكن التنسيقيات التعليمية من صياغة ملف مطلبي موحد فإن المؤكد أن النضال المشترك وإن في حدوده الدنيا سيقفز بها خطوات إلى الأمام نحو تحقيق أهدافها.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.