المغرب وشبح المقاربة الأمنية..هل فشل الخيار السياسي؟

عربي بوست
تم النشر: 2021/06/18 الساعة 08:51 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2021/06/18 الساعة 08:56 بتوقيت غرينتش
iStock

         لعل المتتبع للتدبير الذي تتم به العديد من القضايا الداخلية في المغرب في السنوات الأخيرة، لا تخطئ عينه تواري الحلول السياسية القائمة على الحوار واستبدالها بالمقاربة الأمنية في حل المشكلات والتوترات المتنوعة التي تبرز بين الحين والآخر، ولعل ذلك يبرز بشكل أكبر في القضايا المتعلقة بالمسار الحقوقي والسياسي، حيث يقبع عدد من الصحفيين خلف أسسوار السجن، الحالة الصحية لواحد منهم _سليمان الريسوني_ جد حرجة بسبب الإضراب عن الطعام الذي يخوضه منذ أكثر من شهرين، كما أن الوصفة الأمنية كانت الخيار البارز في التعاطي  مع المطالب الفئوية،  وبالأخص منها مع رجال التربية والتعليم الذين ولجوا سلك التعليم تحت مسمى التعاقد، ويسعون إلى تحقيق استقرار مهني يضمن لهم بعض الكرامة والمساواة من خلال الإدماج في الوظيفة العمومية أسوة بزملائه.

  تلك الجوانب التي طفت إلى السطح كتحد  في السياق المغربي الراهن، بالإضافة إلى تدبير ملف جائحة كورونا التي التي برز فيها رجل السلطة ، تطرح جملة  من المشكلات في مستقبل المغرب الاجتماعي والسياسي، إذ ان تهديد الحريات والحقوق المدنية والسياسية والاجتماعية، في تواز  مع التراجعات الحاصلة عن دمقرطة المشهد السياسي بقوانين وأعراف، يشكل نقضا لكل المسار الذي قطعه المغرب، وإعادة عقارب الزمن السياسي والحقوقي، إلى حقب مضت، بل إن تلك الحقب الماضية كانت تحتفظ بالنقد واختلاف الرؤى، ولم يكن الصحفيون يساقون إلى المحكمة بإخراج يشوبه العديد من الشوائب، بحيث يصعب الفصل بين القانوني والأمني والسياسي، سيما أن الذين طالهم الاعتقال يعبرون عن نفس الخط التحريري في التشوف إلى الديمقراطية والحرية، مما يطرح العديد من الأسئلة ويستلزم تدخلا مستعجلا لحل الأزمة الحاصلة.

  تبرز من بين ثنايا ما ذكرناه  في اللحظة الراهنة وضعية الصحفي سليمان الريسوني، الذي يتجه إلى الموت بعد إضراب عن الطعام استمر لأكثر من شهرين، بسبب الظلم والشطط الذي استشعر أنه تعرض له، فأبى فيما يبدو من إصراره الشديد من أجل حريته، إلا أن يتلحف كفنه في زنزانة الاعتقال، والغريب أن حالة الصمت السائدة من طرف مركب السلطة تثير العديد من الأسئلة حول القيمة الحقيقية للإنسان، فكيف به إذا كان صحفيا لامعا أو كاتبا مهجوسا بقضايا بلده، مما يعيد إلى الواجهة التوتر في العلاقة بين الحكم ولوبيات المال والسلطة من جهة، والإعلام وكتاب الرأي والمثقفين الذين يعمدون إلى تفكيك بنى الظل التي تمتزج فيها الثروة والسلطة، حيث يعيش بعض الساسة ورجال المال حالة فوبيا من النقد، مما يجعل الخيار الأمني هو الطريق الأنجع في نظرهم، عوض النظر إلى ان النقد الممارس في الصحف والإعلام والوسائط الحديثة، من صميم الثقافة السياسية الحديثة، بل إن الانحرافات التي يمكن أن يقع فيها من بيده السلطة والحكم وكل وسائل القوة، لا يمكن أن يستقيم حالها إلا بسلطة مضادة، تستند أساسا على إشراك الرأي العام في الرقابة والنقد والتقويم، ذلك أن السياسي والحاكم وكل صاحب نفوذ، في البلدان غير الديمقراطية يعيش على واقع الريبة من الرأي العام.

إنه لا يمكن تصور التقدم وتحديث المؤسسات وكسب الرهانات التي يرفعها بلد ما، إلا بالخضوع وجوبا _عقليا وأخلاقيا_ للرقابة والنقد، وكل نسق سياسي أو صاحب سلطة أو ثروة يستبد به الخوف من النقد، يضفي على نفسه القداسة  التي لا تستقيم مع طبيعة السياسة وتدبير شؤون السلطة والحكم، بعبارة أخرى، إنه لا وجود للديمقراطية والتحديث السياسي وكسب رهان التحديات في مغرب اليوم؛ والتحديات متنوعة لا حصر لها بين الخارج والداخل، إلا بوجود إعلام يبتعد عن التزييف والحشد وفق البروبغندا التقليدية، أو لنقل بضرورة وجود إعلام يسهم في رسم صورة  حقيقية للواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي، لتجنب تبعات أزمة الثقة الحاصلة بين المجتمع والدولة، والانفصال الحاصل بين شرائح عريضة من المجتمع وبين الساسة والنخب والمؤسسات.

         لقد انخرم عقد الثقة لعدة أسباب لم يحسم فيها المغرب طيلة المسار السياسي الحديث، لكن عودة المقاربة الأمنية إلى الواجهة وهيمنتها على غيرها من المقاربات التي تشكل عادة منفذا من الأزمات والإشكالات الاجتماعية والسياسية، أضحى العنوان الأبرز للأزمة الراهنة منذ حراك الريف الذي أثقل المغرب حقوقيا على المستوى الدولي، ثم الآن مع الصحفيين سليمان الريسوني وتوفيق بوعشرين وعمر الراضي، بالإضافة إلى احتجاجات الأساتذة المطالبين بالإدماج في الوظيفة العمومية.

الملاحظ لطبيعة التجاذبات الحاصلة، لا يخطئ نظره أن عودة الهاجس الأمني يوزايه انحسار في الفعل والمبادرة السياسية، مع أن جملة من الأزمات الاجتماعية التي يمكن أن تتعرض لها المجتمعات، يتحصل جوابها عند السياسييس والفاعلين في الحقل المدني والمؤسسات الثقافية والأكاديمية، وليس عند التكنوقراط أو في المقاربة الأمنية. بمعنى آخر؛  ليست الاشكالية في تدبير فني محض يختص به الخبراء وحسب، كما انه ليس في وضع برامج تنموية بعيدة عن أجواء ومناخ الحرية، أو  تتبع الأصوات الناقدة والمعارضين، إنما الإشكالية أساسا ترتبط في جانب منها بتراجعات في المسار السياسي عن الديمقراطية والتحديث السياسي وتفعيل آليات الرقابة والحكامة المصحوبة بتطبيق القانون، وفي جانب آخر  في بنى ووسائط الوعي والثقافة، وذلك مجال آخر  يحتاج نظرا مستقلا لتمظهراته عند النخبة والمجتمع في السياق المغربي والعربي، ذلك أنه لا نهضة أو تقدم بدون ثقافة حاملة لروح التقدم، والمغرب لا يعدم التميز في مجال الفكر والثقافة، إنما عقلانيته عند مفكريه ظلت فردية ولم تتمأسس، والفعل الثقافي فيه، ظل يحمل الطابع الاحتفالي الفلكلوري، مما يشير إلى جوهر المشكلة مركبة بطبيعتها، وممتدة في الزمن وليست وليدة اللحظة، فهي تصاحب المغرب منذ حقب مضت، لكن إعادة صناعة الإخفاق وفق ميكانيزمات معهودة لدى النخبة والمجتمع، يحمل مخاطر للدولة والمجتمع معا.

   لن نكون متسرعين، إذا قلنا إن لحظة الربيع العربي كانت لحظة تاريخية أخطأ فيها المغرب موعده لما قرر التراجع عما قدمه دستور 2011 والمنطق السياسي التعاقدي الذي فتح منفذا للانتقال إلى الديمقراطية من خلاله، ولا نحتاج إلى التدليل على جملة من التراجعات السياسية والحقوقية، إنما الغاية هي التنبيه إلى مخاطر تهميش المداخل الناجعة أو تبخيسها في تدبير القضايا العالقة، ومنها المدخل السياسي، وتعويضها بالمقاربة الأمنية أو السعي لأمننة الفضاء العام والمؤسسات،  إذ السياسة فن الحوار  وصراع متعدد وفق أعراف وأخلاقيات وتجاذبات يشكل الكتاب والإعلاميون والأكاديميون أحد أعمدتها، لما يقومون به من صياغة للوعي وصونا لمسارات التقدم والتحديث الذي يتاوزى فيه الثقافي بالسياسي بما يستجيب لتطلعات المجتمع في الحرية والمساواة أمام القانون والمؤسسات، وأولى الخطوات التي ينبغي العمل عليها لتجاوز التراجعات الحاصلة والقضايا العالقة المسيئة للمغرب، يتطلب حوارا مجتمعيا تكون مقدماته في إطلاق سراح الصحفيين القابعين في السجن، وفي مقدمتهم سليمان الريسوني، إلى جانب باقي معتقلي حراك الريف، وأي انفراجة يمكن أن يشهدها الوضع الحقوقي في المغرب الراهن سيكون انعكاسه مؤثرا على الجمود الذي طبع المشهد السياسي، أو الذي دفع إليه لإفراغ ما قدمته الوثيقة الدستورية (دستور 2011) من بعض محتوياتها الايجابية والتراجع  عنها، أما غير ذلك، أي بقاء الصمت والتجاهل لغة مفضلة بخصوص اعتقال الصحفيين، فإن ذلك سيجعل من الانتخابات المقبلة، مجرد احتفالية رديئة بدون خطاب أو جمهور سياسي، بصيغة أخرى بدون رهانات تجيب على إشكالات المجتمع.  

وما يؤكد هذا المطلب ويجعله أكثر إلحاحا، هي طبيعة التحديات التي يواجهها المغرب على المستوى الإقليمي والدولي، والتي تتطلب نوعا من التماسك على المستوى الداخلي أو الوطني، بل إن كسب جملة الرهانات الإقليمية والدولية، لا يمكن أن تتم بالطريقة المثلى دون ديمقراطية داخلية وتحديث للمؤسسات وفق ثقافة سياسية تحترم الحقوق والحريات، وتجعل المواطن مسهما في قضايا مصيرية لبلده، فكيف بالصحفيين والإعلاميين والنشطاء.

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

يحيى عالم
باحث في قضايا الفكر العربي الإسلامي والفلسفة. شارك في عدة مؤتمرات وطنية ودولية، نشرت له عدة دراسات ومقالات في قضايا الفكر والثقافة والسياسية، وأخرى قيد النشر، مقيم حالياً بألمانيا.
باحث في قضايا الفكر العربي الإسلامي والفلسفة. شارك في عدة مؤتمرات وطنية ودولية، نشرت له عدة دراسات ومقالات في قضايا الفكر والثقافة والسياسية، وأخرى قيد النشر، مقيم حالياً بألمانيا.
تحميل المزيد