متشابهان في الثورة مختلفان في الشهرة.. عن الفرق في خطاب رفيقَي الكفاح ماركس وإنجلز

عربي بوست
تم النشر: 2021/06/16 الساعة 07:01 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2021/06/16 الساعة 07:01 بتوقيت غرينتش
ويكيبيديا

         حين بدأت أُطالع أدبيات ماركس، وأُراقب عن كثب كل ما قيل ومازال يُقال عنه إلى يوم الناس هذا، تعجبت كثيراً، لماذا يُسلط الضوء على ماركس وحده؟ وماذا عن رفيق درب الكفاح.. فريدريك إنجلز- مؤسس الماركسية العلمية؟ هل صار إنجلز تابعاً له فقط، رغم أن من كان يملك المال والمأوى لتنطلق شرارة الشيوعية هو إنجلز وليس ماركس، بل وقد قام إنجلز بوضع كتب جاورت كتب ماركس في أهميتها، بل وخط مع ماركس كتاب "رأس المال" وكذلك خط "البيان الشيوعي" معه، فلماذا نُسبت في الأخير كل تلك الأعمال لماركس بمفرده؟ ولماذا تجاهل البعض دور إنجلز؟

البساطة مِفتاح اللغة

   لم أكن أحتاج الكثير من البحث لفك شيفرة ذلك اللغز، فمع الوهلة الأولى لمُطالعتي على الأصداء التي خلقتها كتابات الاثنين –ماركس وإنجلز- أدركت لمن الريادة والبقاء؛ لذلك الذي يُخاطب الناس بلغة سهلة وسلسة وثورية، لا يأبه بغيرهم، فيُخاطب العامة المُنكل بهم، بلغة تتفجر من بين ثناياها كل معاني الثورة، فكانت الغلبة بالطبع لماركس!

   فالفرق بين ماركس وإنجلز واضح، ذلك لأن ماركس يُخاطب الناس بما يمس عواطفهم، أما إنجلز يُخاطب الناس بما يمس عقولهم، فإنجلز كما البروفيسور القائم في إحدى المُحاضرات الجامعية، يُلقي على الطلبة شرحاً مُملاً واستدلالاً قد يزداد مللاً. أما ماركس فقد خلع ثوبه الجامعي منذ أن ترك الحياة الأكاديمية تلك، واتجه صوب الناس يُعاين لغتهم، ليقنعهم بما يدور في ذهنه.. بما يفهمونه! فكانت البساطة سر البقاء.

  ويرى البعض أن السبب يعود إلى بروز بعض الكتابات منذ منتصف القرن العشرين تحط من قدر إنجلز وترى بأنه أشد أخطاء ماركس، وأنه كان مُفرطاً في الجانب العلمي المادي إلى درجة تحول الإنسان خلالها إلى مجرد مادة أو سلعة تتفاعل مع التمدد الحراري والانكماش.

مُقارنة بين الصديقين

   وعلى هذا، يحق لنا عقد مُقارنة بين رفيقيّ الكفاح يا صديقي، لنعلم –أنت وأنا- لماذا كان ماركس في الواجهة!

         فانظر إلى كارل ماركس وهو يشرح فكرة أن الطبيعة ليست ساكنة وإنما مُتحركة –ديناميكية- وتحمل في ذاتها العديد من التناقضات تُساهم في حركتها وتطورها فتغيرها، بلغة أكثر من بسيطة، فيقول: "أن التناقض لا يوجد في الأفكار فقط بل إن وجوده في الفكر ليس إلا صورة عن وجوده الموضوعي الخارجي في الطبيعة"([1])

         ثم انظر لصديقه إنجلز وهو يشرح نفس الفكرة مُستعيناً بالعلوم الطبيعية لإثبات حجته: "الحركة هي حال وجود المادة، فلا توجد مادة بلا حركة، فهناك حركة في الفضاء الكوني،   وحركة آلية لكتل أصغر فوق كل جرم سماوي، وذبذبة جزئيات في صورة حرارة أو تيار كهربائي، وكل ذرة واحدة في الكون تُشارك في لحظة بعينها في صورة أو أُخرى من صور الحركة"([2])، قد تتعجب أول الأمر من إنجلز يا عزيزي، هل يستعرض ثقافته؟ أم أنه يُخاطب "نخبة معينة" بتلك الثقافة العلمية؟!

   وإليك مُقارنة سريعة في أسلوب كليهما عند توجيه الخطاب للجماهير، فتجد ماركس في نهاية البيان الشيوعي يرسم ملامح الثورة بصبغة رومانسية بسيطة يصف فيها مُعانة العاملين قائلاً: "ويأنف الشيوعيون من إخفاء آرائهم وأغراضهم، فهم يُعلنون صراحة أنه لا يُمكن تحقيق أهدافهم إلا بالإطاحة بكافة الظروف الاجتماعية السائدة. لترتعد الطبقات الحاكمة أمام الثورة الشيوعية، لا يمتلك البروليتاريون ما يخسرونه سوى أغلالهم، وأمامهم عالم يربحونه، يا عمال العالم، اتّحدوا!"([3]).

   هذه هي لغة ماركس في مُخاطبة الجماهير، لغة ثورية، مشحونة بكل معاني القوة والغضب، على عكس إنجلز والذي ترى خطابه مخطوطاً بكلمات باردة وبإسهاب نخبوي لا قيمة له، تشعر حياله بالملل، فيقول في كتابه الماركسية والطوباوية صـ106: "لابد أن تستولي البرولتاريا على السلطة الاجتماعية، وبواسطة هذه السلطة تحول وسائل الإنتاج الاجتماعية المُنتزعة من أيدي البورجوازية، إلى ملكية المجتمع بأسره، وبهذا العمل تتحرر وسائل الإنتاج من كل ما كانت تتصف به بوصفها رأسمالاً".

   هل يُعد ذلك الخطاب خطاباً "جماهيرياً" كخطاب ماركس، هل تستوجب مثل تلك الكلمات أن تُنصت لها آذان العُمال والبُسطاء، فهو خطاب منزوع من سرابيله أسمى معاني العاطفة والحشد والثورة، فلمن كان موجه في الأساس سوى للنخبة!

 لمن البقاء؟

   البقاء لمن أعلن الثورة وسط الناس، لمن وقف بين الناس مُخاطباً إياهم بلغتهم، لمن راسلهم بما تعيه أفئدتهم، وتنصاع له قلوبهم، فكُتب البقاء أن يكون لماركس، والذي صار في واجهة الأمر والثورة، لأنه من أشعل فتيلها، وصاح في وجه الطبقات البورجوازية، مناهضاً لها ولحكوماتها، وإن كان فقيراً وصديقه غنياً، إلا أن الناس تذكروا من ارتدى لباسهم، وتحدث بلسانهم، ولم يتذكروا من كان نخبوي الألفاظ كإنجلز.

   فالفرق بسيط، الاثنان –ماركس وإنجلز- كانا صديقين مُقربين، أحدهما ركز على العامة، والآخر ركز على الخاصة، الأول خط كلماته بسهولة أدبية بسيطة، تنساب كالسهل في أذهان الناس دون أن يتوقف القارئ لمراجعة ما قاله، والثاني خط كلماته بألفاظ وخبرات ثقيلة، لا يفقهها إلا ذوو العلوم والهمم، وهؤلاء كانوا نخبة ضئيلة جداً. فكانت ورقة ماركس هي الرابحة.

الخُلاصة

         في الأخير، أقول لك يا صديقي أن الناس دائماً يحبون من يشبههم؛ لغة، وفِكراً، وشكلاً. ويتحاشون الغريب عنهم، والذي قد يشعر بعضهم أنه ضدهم، والضد ليس شرطه أن يكون في التوجه، بقدر أنه في الأسلوب المُتبع، فالناس يميلون أكثر لمن ينتهج أسلوبهم، ليأخذ بأيديهم، إلى طريق ومكانة أُخرى، غير التي يقبعون فيها، فالبساطة هي السر في كل ذلك، تلك -البساطة- هي ما كان "نيتشة" يبحث عنها في كتاباته، أن يكون بسيطاً غير معقد، وغير مثرثر بتفاصيل لا قيمة لها، فخير الكلام ما قلّ ودلّ.

تلك البساطة هي من أبقت لنا كتابات وحوارات "مُصطفى محمود" ترن في آذان العالمين إلى يومنا هذا، وخطب "جيفارا" أمام الناس، وكتابات "أحمد خالد توفيق"، و"جورج أوريول"، وغيرهم الكثير.

تلك البساطة هي التي جعلت من "أحمد الغندور" الشهير بـ "الدحيح" محبوباً ومُفضلاً لدى الشباب، لأنه يُبسط لهم ما لا يقدرون على قراءته بشكله الأصلي، من خلال البساطة تعلق الشباب بالإعلامي "أحمد الشقيري"، وعظم المصريون الشيخ "الشعراوي" لبساطته، تلك البساطة كنز لا يفنى، فاكتنزه إن كنت تقدر.

لأهل البساطة يُكتب الخلود في أذهان الناس، على عكس أهل الاستعراض، وإليك ما قاله المُفكر "شبلي شميل" عن قيمة البساطة ونفور البعض منها: "الناس حتى اليوم يكرهون (البساطة) في كل شيء، سواء كتبوا أو تكلموا أو عملوا، ويدخلون الخيال الغريب لا في مباحثهم العلمية والأدبية والدينية فقط، بل في سائر أمورهم الاجتماعية، حتى التافهة جداً منها، فإن تصوروا ملكاً أو حكاماً أرادوهم بكل مظاهر الأبهة ولو ظهروا فيها بمظاهر المساخر، كأنه لا يصح أن يكونوا ببساطة أزياء العالم"([4])


إمام عبد الفتاح إمام، المنهج الجدلي عند هيغل، دار التنوير، بيروت، الطبعة الثالثة، 2007م، صـ310-[1]

المرجع السابق، صـ325. –[2]

كارل ماركس، البيان الشيوعي، ترجمة محمود شريح، دار منشورات الجمل، بيروت، الطبعة الثانية، 2017م، صـ91.-[3]

شبلي شميل، فلسفة النشوء والارتقاء، جريدة المُقتطف، يونيو 1912م.-[4]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

محمد كرارة
مدوّن مصري
مدوّن مصري
تحميل المزيد