نقترب من نهاية الكارثة الكبرى التي ألحقتها جائحة كورونا بالبشرية وجميع الدول على وجه الأرض، سنتخطى الخسائر التي تسببت بها الجائحة وسنتغلب على المشاكل الصحية والاقتصادية والنفسية، لنعود إلى حياتنا الطبيعية التي سنضيف لها العديد من العادات الجديدة.
لم تكن الجائحة مجرد مشكلة صحية أو وبائية فقط. لقد تغيرت الطريقة التي يرى بها الناس العالم والطريقة التي تنظر بها البلدان إلى بعضها البعض، كما أدت الجائحة إلى تسريع تحولات القوة في وقت شهدت فيه أكبر التصدعات الجيوسياسية في القرن الـ21، وانقلب فيه الطلب العالمي رأساً على عقب، وضعفت فيه القوى العظمى وانهارت التحالفات، وصعدت فيه القوى الصاعدة إلى الساحة الدولية.
لقد قللت الجائحة من وزن الولايات المتحدة ونفوذها حول العالم، وكذلك قللت من وزن دول الاتحاد الأوروبي، كما أضعفت تأثير القوى التي انتصرت في الحربين العالميتين الأولى والثانية والحرب الباردة. وعلى الرغم من ذلك، فقد أعطت القوة لبناء عالَم وقللت بشكل كبير من إيمان الناس بالنظام العالمي الذي أقاموه.
كان الأمر واضحاً قبل الجائحة: ما كان ليتشكل عالَمٌ أحادي الطرف يرسم تحالفُ الأطلسي ملامحه بمفرده. كما رأينا كثيراً من نماذج العجز في أمريكا وأوروبا عقب الجائحة لدرجة أن "صورة الغرب" انهارت بشكل كبير، كما ظهرت كثير من الأسئلة داخل الرؤوس حتى أولئك أصحاب أكثر الأفكار تأييداً لأمريكا وأوروبا والغرب.
بقايا العالم القديم
عندما نظرنا لصورة قمة مجموعة السبع في بريطانيا، كان من الواضح بشكل قاطع، أنه "لم يعد لدى هذا الكيان أي شيء يمكن أن يقدمه للعالم"، فلم نكن إلا أمام صورة القوى المتقادمة التي تستخدم ما تبقى من مكانتها القديمة. فحتى جائحة كورونا كانت كافية لتدمير صورتهم بالكامل والكشف عن كل جوانب ضعفهم.
نظرت لصورة زعماء مجموعة الدول السبع، فباستثناء اتساق ميركل، كان من الواضح أن زعماء أمريكا وأوروبا ليس لديهم أي جديد يمكن أن يقولوه للعالم أو يمنح الأمل للإنسانية أو يقود الجماهير أو أي شيء أو رؤية يمكن أن تنير درب حالة الغموض المنتشرة حول العالم.
لم يعد هناك عالَم يقبل بالسير خلف أمريكا والغرب دون هدىً، فالغرب مسجون داخل ماضيه ويعجز عن الخروج منه، كما أنه أسير للغرور المستمر منذ عهد الاكتشافات الجغرافية وبداية حقبة الاستعمار وسيطرتهم على البلدان والشعوب.
ربما نشاهد للمرة الأولى منذ قرون، الغرب وهو يخرج من المركز نحو الهامش. فلم يعد هناك أثر لتلك العقلية والقوة والإرادة التي انتصرت في الحروب وأقامت الأنظمة حول العالم.
إن النظام والعقلية الغربية المبنية بالكامل على الاستعمار والسلب والنهب، دمَّرا تماماً ثقة البشرية ببلاد الغرب. فلم يعد لديهم ما يمكن أن يقدموه للعالم من الناحية التقنية أو الفكرية، كما أن العالم لم يعد يريد أن يحصل منهم إلا على القليل. لقد فسد السحر ورأى العالم ضعف هؤلاء الزعماء وقدراتهم المتواضعة.
إن الغرب صامدٌ اليوم بقوة مادية متبقية له من الماضي وما يزال يستغلها لاستدامة نظامه القائم، فكل من له عقل، يرى أن هذا النظام لن يستمر طويلاً؛ بل سينهار سريعاً.
سيتصارع الغرب داخلياً
لم تكن أزمة 2008 أزمة مالية وحسب؛ بل كانت أزمة جيوسياسية أدت إلى تحولات قوى على المستويين السياسي والاقتصادي، الأمر ذاته ينطبق على جائحة كورونا التي لا تعتبر كارثة صحية فحسب.
سنرى تحولات قوى كبرى، وسيبدأ هذا بمجرد انتهاء الجائحة. سنرى تحركات وتحولات سريعة واستثنائية. سنشهد توترات وأزمات وصراعات كبرى تمتد من آسيا إلى إفريقيا ومن الشرق الأوسط إلى جنوب آسيا ومن البلقان إلى القوقاز؛ بل وحتى داخل أوروبا ذاتها.
ولا شك في أن من يشكلون مركز العالم منذ قرون لن يرغبوا في تقاسم هذه القوة، فستبدأ صراعاتُ تقاسمٍ كبرى مع الآخرين وبينهم وبين أنفسهم. لكن العالَم انطلق في مسيرة رغماً عنهم ، فلن يستطيعوا إيقافه.
تابِعوا الدول الصاعدة وانظروا إلى تصريحاتها ووعودها وثقتها المتنامية وحماستها وروحها التي تخوض الكفاح بلا هوادة، انظروا إلى نشاطها وإنتاجها وكيف استعادت بعض تلك الدول عقليتها الإمبراطورية من الماضي إلى الحاضر.
ستغير هذه الدول العالم، كما أنها هي التي ستبني المستقبل وستحجز لنفسها أماكن في المركز وستقضي على الهيمنة الدولية أحادية الجانب المستمرة منذ قرون. وفي الوقت الذي ستنهار فيه الدول المركزية ستكتسب هذه الدول قوة استثنائية.
تركيا مفاجأة القرن الـ21!
لا شك في أن تركيا من أكثر الدول اللافتة للانتباه من بين هذه الدول، فالجميع يتحدث عنها كدولة مفاجأة، من أمريكا إلى أوروبا ومن آسيا إلى إفريقيا، فنرى الجميع يطرح تساؤلات، من قبيل: "كيف فعلتْ هذا؟ كيف نجحتْ في هذا؟ ما الذي في عقلها؟ ماذا ستكون خطوتها التالية؟".
ينظر البعض إلى تركيا بغبطة وأمل وفرح، والبعض يناقش هذا الأمر بتوتر وهو يقول: "كيف سنُوقف هذه القوة؟"، وكلا الرأيين في الواقع يعلن ظهور لاعب جديد على الساحة الدولية.
لقاء أردوغان-بايدن
اكتسبت قمة الناتو ولقاء الرئيس أردوغان بنظيره الأمريكي جو بايدن أهمية كبرى في هذا السياق. لقد بدأت تحركات ما بعد الجائحة، فسيرسم كل واحد ملامح مخططه ويعيد تعريف موقعه، ولا يمكن أن تنكر أي دولة أو قوة أو تحالف، حقيقة أن أحداً لن يستطيع رسم ملامح أي مخطط دون تركيا.
ومن الآن فصاعداً سننظر إلى كل قمة من خلال مبدأ تكافؤ القوى، ولن يكون هناك أي طاولة أحادية الجانب، وستُعقد كل الاجتماعات من أجل التفاوض على القوى المتبادلة وليس من أجل طلب شيء.
ذلك أن أي دولة، وضمنها أمريكا نفسها، لم تعد تقدر على توجيه التعليمات لتركيا أو إيقافها، كما ينبغي لكل الدول، وضمنها أمريكا نفسها، أن تعيد تعريف علاقتها مع تركيا، وهذا ما سنراه.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.