ما بات في حكم المؤكد أن رئيس الحكومة المكلف وزعيم تيار المستقبل سعد الحريري فهم بعد وقت طويل ومراحل عديدة ومحاولات مكثفة أن السعودية غير متحمسة لإعادة وصل ما انقطع معه في لبنان، وأنها تفضل إنهاء الحقبة "الحريرية" إلى غير رجعة، وبعيداً عن أنها لم تجد بدلاء عن الحريريين وأن معظم من يسوقون أنفسهم لدى دوائرها ليسوا أصحاب قيمة سياسية أو اجتماعية لا بالشكل ولا بالمضمون، إلا أن الأكيد أن الحريري قرر التحرك وفق معادلة صعبة أخذت منه وقتاً كبيراً ليحسم خياره، والمعادلة تقول: إنه بات أمام خيار خوض معركته وحيداً وبعضلاته شخصياً دون دعم خارجي دولي أو إقليمي.
الإعتذار محلي والتوقيت دولي
لم يعد الحريري جاهزاً لتحمل "ثقالة" جبران باسيل وليس حاضراً للتضحية أكثر بموقعه السياسي الذي يعيش أياماً لم يعشها حتى في ذروة صراعه المباشر مع حزب الله قبيل الربيع العربي وما بعده، يسعى باسيل للاستفادة من طي صفحة الحريري سعودياً وغياب واشنطن عن لبنان للانقضاض على الحريري وإعادته للبيت مهزوماً مضطراً للخروج من المشهد السياسي المحلي، لأن باسيل بات يدرك أيضاً عدم رغبة العرب بالاستثمار لبنانياً بأي فريق سياسي، لذا فالحريري مضطر للعودة خطوة للوراء عبر قرار الاعتذار لكن هذه المرة سيكون اعتذاره مدروساً ومنسقاً وفق:
أولاً: عندما استقال الحريري في أكتوبر/تشرين الأول 2019 -أي بعد ثورة 17 تشرين- خرج الحريري من السراي الحكومي دون تنسيق مسبق مع الحلفاء والأصدقاء والداعمين، لذا فإنه ينسق خطواته لحظة بلحظة مع رئيس مجلس النواب نبيه بري ورئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط وحزب الله ورؤساء الحكومات السابقين ونواب كتلته ومفتي الجمهورية ليصار إلى التفاف حوله إذا ما قرر الذهاب للمعارضة والتحضير لمعركة كسر ميشال عون وجبران باسيل ليس سنياً بل وطنياً، لأنه وفق كل المتابعين والوسطاء فإن باسيل بات المسؤول عن العرقلة الجارية لعملية التشكيل.
ثانياً: عندما قرر سعد الحريري الذهاب لخطوة الاعتذار عن مهمة تشكيل الحكومة حطت في دارته شخصيات ذات ثقل سياسي وأسمعته كلاماً واضحاً وصريحاً عنوانه الرئيسي أن المنطقة برمتها تنتظر لقاء بايدن-بوتين وما سيخرج عنه، وتحديداً أن الحريري نفسه وخلال استقباله وفد السفارة الأمريكية في بيروت برئاسة القائم بالأعمال ريتشارد مايكلز سمع منه كلاماً واضحاً مفاده أن الملف اللبناني لن يكون حاضراً كما يجب في لقاء الرئيسين بايدن وبوتين، وأن الملفات الأساسية هي سوريا والقرم وأمن إسرائيل وبعض الملفات الشائكة بين الطرفين، كما أن الحريري فهم من الجانب الأمريكي عزم واشنطن بمنع انهيار لبنان ومساعدته غذائياً واقتصادياً -بما يلزم- وأن هذه الرؤية تتشاركها مع فرنسا ودول أخرى وتحديداً مصر وقطر.
لذا فإن الحريري الذي فاتح بعض زواره بما سمعه من الوفد الأمريكي ونصح منهم التريث في إعلان الاعتذار لترتيب الاعتذار أو البقاء مع بري وجنبلاط وطنياً ومع الطائفة السنية التي تشعر مجدداً أنها مصابة برجالاتها، كما أن الحريري قرر تأخير اعتذاره إلى ما بعد زيارة باتريك دوريل المرتقبة للبنان، والتي وفقاً لمصادر مطلعة سيكون الهدف الرئيسي منها تأكيد فرنسا على دعم الجيش في ظل التحضيرات الجارية فرنسياً وأمريكياً لعقد مؤتمر دعم الجيش، وليس معلوماً حتى اللحظة إذا ما كان دوريل سيلتقي الحريري، لكن الحريري كالغارق يبحث عن قشة تنقذه من المعضلة التي وضع نفسه بها منذ 7 أشهر.
ثالثاً: وفقاً لمحيط الحريري الذي يجالسه يومياً في بيت الوسط، فإن الأخير يشعر أن القوى الدولية بدءاً من واشنطن وصولاً للفرنسيين والألمان لا يزالون مصرين على أن مبادرة بري لم تسلم للفشل أمام شروط باسيل، لذا فإن هذا الصبر الأمريكي والغربي انعكس في السياسة عبر قرار العراق تزويد لبنان بمليون طن من الفيول بعد أن وصل لبنان إلى خيار العتمة الكهربائية، والقرار العراقي يعني أن لبنان لن يفقد النور لستة أشهر أقله، لذا فإن الحريري يلمس بعض الإشارات الإيجابية من هذه الخطوة التي لم تكن لتصبح أمراً واقعاً دون "قبة باط" أمريكية، معطوف عليها ما أبلغه وفد البنك الدولي للبنان بوجود قرار بمنح لبنان قروضاً بمليار دولار وليس فقط 246 مليون دولار للأسر الأكثر فقراً، يضاف إليه المؤتمر الدولي الذي دعت له باريس لدعم الجيش اللبناني، والذي سيخلص لتأمين 120 مليون دولار للمؤسسة العسكرية في ظل ما أشيع عن أن وزير الخارجية الأمريكي تمنى على السعوديين والقطريين دعم الجيش والأجهزة الأمنية، وذلك في ظل الدعوة التي تلقاها قائد الجيش جوزيف عون لزيارة واشنطن ولندن ولقاء نظرائه العسكريين لترتيب استكمال الدعم المقرر للجيش اللبناني.
كل تلك الإشارات يقرأها سعد الحريري ويتمعن بها ويسعى للاستفادة منها إذا ما قرر التراجع عن الاعتذار وحصلت المعجزة بنجاح مساعي الخليلين وتشكلت الحكومة فإن بين يدي الرجل مؤشرات يمكن البناء عليها في المرحلة القادمة.
الحريري يحشد السنة: أنا السنة والسنة أنا
كل ما يخشاه سعد الحريري هو الإتيان بوريث جديد لزعامة السنة في لبنان، السعوديون بدءاً من ولي العهد الأمير محمد بن سلمان مروراً بشقيقه الأمير خالد، كلهم يبدو أنهم يسدون الطرق في وجه أي محاولة لفتح ثغرة في جدار العلاقة المتأزمة بين المملكة الصاعدة والفاعلة من جديد على خط استعادة تعافيها في المنطقة وبين الحريري المتعثر، والفرنسيون والمصريون والقطريون والإماراتيون حاولوا التوسط للحريري لدى قيادة الرياض، لكن الجواب كان دائماً: أغلقنا الأبواب ولا نريد فتحها من جديد لا لسعد ولا لبهاء.
تصل لمسامع سعد الحريري تلك الأجوبة ويعيش معها مأساته السياسية التي بدأت يوم قرر الجنوح نحو التسوية مع باسيل وعون وخرج خالي الوفاض مالياً وسياسياً وتبخر جزء من علاقاته بالأطراف الإقليمية، لا يعرف الحريري التوجه لحليف إقليمي جديد في المنطقة، الأتراك والقطريين، وإن قرر الحريري أن يحج إليهما فإن العاصمتين لا تريان فائدة من الدخول في العبث اللبناني إلا من بوابة المبادرات والتسويات -كما حدث العام 2008- أردوغان يرمم علاقاته العربية والدولية وليس بوارد فتح جبهة في لبنان تستفز إيران، وخاصة بعد هزيمة إيران المحققة في أذربيجان واستبعادها عن ملف إدلب وحصره مع موسكو، والقطريون تفاهموا مع السعودية وبدأت مراحل جديدة إيجابية في العلاقة بين الطرفين وصلت لحد أن يقوم القطريون بالتوسط للأمير محمد بن سلمان لدى الإدارة الأمريكية الجديدة والسعي لمساعدة المملكة للخروج من مستنقع اليمن، لذا فإن المغامرة مع الحريري قد تبدو شبه مستحيلة طالما أن السعوديين غير راضين عن الحريري ولا يودون فتح صفحة جديدة معه وإعادة التجربة عبره.
لذا فإن الحريري وبعد أشهر هناك من همس في أذنيه -وتحديداً الرئيس فؤاد السنيورة- بضرورة العودة للقاعدة الصلبة والتي ابتعد عنها وقد تجد وريثاً جديداً في حال بقي في بيت الوسط، هذه القاعدة هي قاعدة الطائفة السنية التي باتت تعيش عقدة تحولها لأقلية مقهورة مسحوقة بسبب التجاذبات السياسية والتحالف بين باسيل و"حزب الله"، فتح الحريري منزله للشخصيات السنية والأحزاب الحاضرة مناطقياً وفتحت مع منزله صفحة جديدة وصلت لمصالحة نواب معارضين له كجهاد الصمد وعدنان الطرابلسي وعبدالرحيم مراد والسياسي خلدون الشريف بالإضافة للقاءات يعقدها الرجل مع العائلات والبلديات السنية، والدعم غير المحدود من رؤساء الحكومات السابقين الذين لا يزالون متمسكين بتكليف الحريري رفضاً أن تتحول مطالب عون وباسيل لأعراف مكرسة بالتعطيل والضغط.
واختتم الحريري عودته لقاعدته السنية بلقاء مفتي الجمهورية عبداللطيف دريان والمجلس الشرعي الإسلامي الأعلى والذي يشكل أعلى مجلس سني منتخب، وذلك قبيل ظهر السبت الفائت حيث وجهت الأنظار لما سيخرج عن الاجتماع، والذي يضم كل المكونات السنية الإسلامية والمدنية والتي كانت تنتظر منذ أشهر لسماع هواجس الحريري والمطبات التي تعرقله بعد أن أضحت أخباره تسمع في الصحف والمواقع.
العارفون بخطوات الحريري والجلسات التي يعقدها مع الشريحة السنية يؤكدون أنه بات أمام خيارين، فإما المضي بالتكليف وتقديم تشكيلته وفق ما وصلت إليه مبادرة بري المدعومة من حزب الله وعدم الرضوخ لشروط جبران باسيل وإظهاره أمام الجميع عراب التعطيل والتأخير، وهذا الخيار الذي علت الأصوات لأجله في اجتماع المجلس الشرعي والذي جعل الحريري يتريث للاعتذار، وخاصة أن الرجل يواجه طابوراً من الحالمين لتولي مهمته الأول فيصل كرامي والذي يلاقيه جبران باسيل في منتصف الطريق بعد أن حاول كرامي مغازلة السعوديين، وعليه فإن الحريري يريد من إعادة رص الصف السني المتآكل القول إن له الكلمة الفصل في تمرير تسمية أي بديل عنه للرئاسة.
أما الخيار الثاني الذي يميل له قلبياً فهو الاعتذار عن المهمة وليحمل ميشال عون وجبران باسيل كرة النار منفردين عندها يقرر الحريري الذهاب للتحضير للانتخابات النيابية والتي باتت مؤكدة في يونيو/حزيران 2022، لذا فإن الرجل بدأ حشد قواعده وكوادره للتحضير للانتخابات وإزالة الغبار عن الماكينة الانتخابية لتيار المستقبل، لكن هذه المرة وفق معادلات جديدة وتحالفات لم يقم بها في انتخابات 2018 إرضاء للجو العربي الذي فضل عودة تحالفاته مع القوات اللبنانية والتي باتت في موقع الخصم اللدود لسعد الحريري في كل المواقع والمجالس، يشعر الحريري بعدم اكتراث مصري وإماراتي للاستمرار في دعمه، وخاصة أن الإمارات غائبة دبلوماسياً عن لبنان منذ أشهر، ومصر الذي غادر سفيرها في إجازة مفتوحة للقاهرة، وعليه فإن الحريري أمام اختبار الزعامة التاريخي دون ظهير عربي -السعودية- ودون حماسة غربية -فرنسا- لذا فعليه أن يقود حمله الثقيل منفرداً دون أحد سوى الصعود مع قاعدته التي ليس معروفاً إذا ما كانت ستمد له طوق النجاة للمرة الأخيرة.
في مقاله الأخير كتب حسين أيوب أنه قبل أيام قليلة، تلقى رئيس مجلس النواب رسالة بالبريد السريع من وليد جنبلاط: كنت أعتقد أنني أستطيع الإمساك بأوضاع الجبل (الشوف وعاليه)، لكن حقيقة الأمر أنه ليس بمقدور أحد أن يقفل مناطقه ويضبط جمهوره وشارعه. أنصح بالتسوية وبأسرع وقت ممكن. فليكن سعد الحريري أو من يختاره الحريري. المهم محاولة إنقاذ ما يمكن إنقاذه. لم يكن جواب بري مفاجئاً، وهو المتمسك بتكليف الحريري أكثر من رئيس تيار المستقبل نفسه.
ويبقى القول إن الخليجيين والسعوديين تحديداً باتوا يلمحون في كل مجالسهم إلى عدم رغبتهم في دعم أي من الأفرقاء السياسيين المتهمين بفساد أو ارتكاب فساد، وأن السعي بات في اللحظة المناسبة إلى التعامل مع قيادات جديدة، غير ملوثة وغير تقليدية، والحريري في أعتى الامتحانات السياسية والتي ستحدد صورة بقائه زعيماً أو أن الرحيل بات محتماً، فهل آن أوان نواف سلام ومن يشبهه أم أن الحريري سيصمد عقداً جديداً؟ رحم الله لبنان ورزق مواطنيه الصبر والسلوان على جموع الحكام.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.