دائماً ما يطل علينا محللو كرة القدم عبر شاشات التلفاز وأثير الإذاعة بجمل محفوظة ومكررة، يستخدمونها في تحليلهم للمباريات. كرة القدم بالنسبة إليهم ليست لعبة التمركزات كما يعتبرها أحد مطوّري تكتيكات كرة القدم ومساعد بيب غوارديولا الحالي، خوانما ليو، وليست لعبة المساحات كما اختصرها تشافي هيرنانديز، وليست لعبة 1 ضد 1 كما يعتقد مارسيلو بيلسا، بل هي "لعبة المعلبات". معلبات جاهزة يحتفظون بها في ثلاجتهم الخاصة ويستخدمونها في الهروب من التفاصيل، معبرين بها عن فقرهم المعرفي، وعدم قدرتهم على ملاحظة التفاصيل وشرحها، ولكنهم يقدمونها -أي المعلبات- بطريقة رومانسية خادعة، في هذا المقال سنناقش بعضاً من تلك "المعلبات الكروية".
- "الكورة أجوال"
جملة ابتدعها المعلق الطريف محمد لطيف بعفوية، وتسببت في كوارث منذ خرجت من فمه. صارت الجماهير تستخدمها في تبرير فوز فرقها المفضلة وإن كان فوزها محض حظ أو بطريقة غير سليمة. ربما كان الكابتن لطيف يريد أن يبرهن على أن تسجيل الأهداف هو الهدف الأول في اللعبة، وهذا المفهوم لا شك فيه ولا في صحته أبداً، لكن الجماهير استخدمت تلك المقولة من أجل التعبير عن دلالات أخرى، مضمونها كارثي، ألا وهو إهمال كل ما حدث في المباراة والتركيز على الأهداف فقط، وكأن النتيجة هي المرجع الأول للحكم بالأفضلية، دون النظر لكيفية حدوثها، أو البحث في عالم ما وراء النتائج، وهذه هي آفة مجال تحليل كرة القدم حالياً، أن يصبح تأثير النتائج على عقول المحللين بالشكل الذي يجعلهم يختزلون كل شيء فيها.
- "احذروا.. الإعلام يحلل النتيجة لا المباريات"
تلك إحدى مقولات المدرب الهولندي لويس فان غال العظيمة، اختصر بها أغلب ما يدور في استوديوهات التحليل الرياضي عامة والكروي خاصة. إذا كنت معترضاً على فان غال، حسنا، إذا كانت الكرة أهدافاً ونتيجة فقط فلماذا تشاهد المباراة بأكملها؟ فلتشاهد الملخص فقط، أو الأهداف بعد انتهاء المباراة. أو لتنتظر أن يخبرك أحدهم بالنتيجة النهائية فقط، ما دامت هي المرجع الأساسي للحُكم بالأفضلية والتفوق، وليجلس الجمهور في المنزل ويغلق التلفاز ويتابع النتيجة عبر الهاتف.
يرشدنا خوانما ليو بكلماته: "الهدف في الرحلة، العملية، المشروع، العمل المبذول. في سباق ما أنت الأول لأميال وأميال، وقبل خطوات من الخط النهائي وقعت، هل ستقول أيها الصحفي أنا فاشل؟ لقد جريت بكل قوة طوال الطريق. الموضوع أكبر من أنك جيد إذا فزت، وسيئ إذا خسرت، النتيجة مجموعة من البيانات، أنت تناقش العملية وليس النتيجة النهائية، النتائج لا تُناقش، هل أنت تذهب إلى الملعب لمدة تسعين دقيقة من أجل مشاهدة لوحة النتائج في نهاية المباراة، أم لكي تشاهد المباراة نفسها؟
نحن نشاهد العملية أو المباراة، وفي النهاية نحكم على النتيجة فقط، تهاجم ما انتهى بشكل سيئ، وليس ما جرى بشكل سيئ".
هكذا وضع العبقري المنسي النتيجة في المكانة والحيز الذي يستحقها.
هل مهمة محللي كرة القدم هي إخبارنا بمن فاز ومن خسر؟ أم تحليل كيف جاء ذلك الفوز وهل هو مستحق أم لا، ولماذا؟
هل تعي مدى تأثير الحظ في نتيجة المباراة كي تتخذها المرجع الأول لك؟
- تأثير الحظ في نتائج كرة القدم
بعد عمل بحثي ضخم ودراسة لعدد كبير من مباريات كرة القدم، هدفها توضيح مدى تأثير الحظ في نتائج كرة القدم، أعلن أحد أفضل محللي البيانات الرياضية، عمر الشودري، أن في حوالي 35% من المباريات لا يفوز الفريق الأفضل، وأن مصيره إما الخسارة أو التعادل، هذه نسبة ليست هينة، وتؤكد على أنه من الممكن ألا تعبر نتيجة المباراة عن سيرها.
هناك حكاية مجنونة عن الأسطورة والمدرب التشيكي زدينيك زيمان، حكاها مساعده، عندما كان زيمان يدرب إحدى فرق الدرجة الثالثة في إيطاليا خسر مباراة ما بنتيجة ثقيلة، بعد المباراة دخل إلى غرف الملابس وشجع اللاعبين وحياهم على الأداء الذي قدموه، وقال لهم إن النتيجة لا تعبر عما حدث في أرض الملعب، وإنهم افتقدوا للحظ، وحثهم على الاستمرار باللعب بنفس الطريقة في باقي المباريات، وفعلاً فاز في المباراة التالية بنتيجة كبيرة، واستطاع في النهاية أن يصعد بالفريق إلى دوري الدرجة الثانية الإيطالي.
مرة أخرى، لويس فان غال، عندما يستقطب مساعداً جديداً له يقوم بعمل فخ عبقري ليختبر جودته، وتأثير النتيجة على عقله، يأتي بمباراة تبدو نتيجتها خادعة ويجلس معه ويناقشه فيها، إذا اكتشف أن لنتيجة المباراة تأثيراً على تحليل المساعد للمباراة لا يعطيه فرصة للعمل معه.
النتيجة هي أخطر "معلب كروي" والأكثر وفرة في ثلاجة المحللين، يتم استخدامه عندما يعجزون عن تفسير ما حدث في المباراة، لذلك حذرنا منهم فان غال.
- النهائيات تُكسب ولا تُلعب
يتم استخدام ذلك المُعلب عندما يفوز الفريق الأسوأ في مباراة النهائي بالبطولة. هذا المعلب هو امتداد لمعلب "الكورة أجوال". عندما يعجز المحلل عن تفسير كيف فاز الفريق الفلاني باللقب يهرول إلى ثلاجته، ويحضر لنا ذلك المعلب الجميل، "النهائيات تكسب ولا تلعب". وكأن المدرب الفائز مدرك أن المكسب ليس في اللعب، كيف ستفوز بدون أن تلعب؟ نعم، ربما ستفوز بالحظ، هل ذلك يعتبر خطة أو استراتيجية تم التحضير لها قبل المباراة؟ أم أنه قد كتب لك الفوز فقط؟
إذا نظرت لنهائي دوري أبطال أوروبا الأخير ترى أن من لعب جيداً هو تشيلسي، ومن فاز أيضاً هو تشيلسي، إذاً النهائيات تلعب وتكسب أيضاً. عُد بذاكرتك إلى نهائي "ويمبلي 2011″، كتيبة بيب غوارديولا نصبت السيرك على أطفال السير أليكس فيرغسون، وفازوا أيضاً، وهناك العديد من الأمثلة الدالة أن الفريق الذي لعب جيداً هو الفائز، فلماذا لا نسمع هنا جملة النهائيات تكسب ولا تلعب؟
ذلك المُعلب يتداوله جمهور الفريق الفائز، عندما يفوز فريقه بالحظ، فمن أجل أن يريح سريرته وينتشي بالفوز دون أن يعكر مزاجه يُطلق من فمه ذلك المعلب السحري، النهائيات تُكسب ولا تُلعب. كل ذلك محض هراء لتبرير الفوز غير المستحق، نرجع إلى إحصائية عمر الشودري بأن أكثر من ثلث مباريات كرة القدم تحسم بالحظ، ربما يتخلل تلك النسبة العديد من النهائيات، ويفوز بالحظ من لا يستحق، ويأبى أحدهم أن يقول ذلك، ويغلف الفوز بتلك الجملة.
- "من يريد المتعة فليذهب إلى السيرك"
هذه الجملة كثيرة التداول عبر مواقع التواصل الاجتماعي بين الجماهير الكروية، لكن مدرب يوفنتوس ماسيميليانو أليغري كان أول من استخدمها من المدربين للرد على من يتهم طريقته بأنها قبيحة. لا داعي هنا للخوض في براغماتية أليغري والسياق الذي قيلت فيه الجملة. هنا نريد تسليط الضوء على الاستخدام الخاطئ لجملة الإيطالي.
من يريد المتعة في كرة القدم عليه أن يشاهد مارادونا، أن يطرب نفسه بمشاهدة ما يقدمه ليونيل ميسي، أن يذهب إلى مدرجات يوهان كرويف ألينا ويرى ما يقدمه أبناء إيريك تين هاج، أو يذهب إلى نابولي ويشبع من الساريزمو الخاصة بأبناء الجنوب مع ماوريسيو ساري، هناك العديد والممتع في كرة القدم، هناك بدل السيرك ألف.
- شخصية البطل
هذا الملعب خاص بالفرق الكبيرة فقط أو تلك بطولة الكبار، يهرول المحلل صاحب المعلبات إلى ثلاجته الخاصة ويحضر تلك الجمل وما على شاكلتها لتبرير فوز الفريق الأسوأ. إن الفريق الفلاني قد فاز لأنه يملك "شخصية البطل"، رغم أن نفس الفريق خسر مباريات تحت نفس الظروف تقريباً ولم يخبرك أحدهم عن شخصية البطل، نفس الفريق خسر مباريات كان يستحق الفوز فيها، لماذا لم يقولوا عن المنافس هنا إنه فاز لأنه يملك شخصية البطل؟ حسنا ربما لأنه ليس فريقاً كبيراً كي يليق به هذا المُعلّب.
مؤمن تماماً أن هناك شخصية لكل لاعب، ناتجة من تراكم خبراته في المواقف الصعبة داخل وخارج الملعب، ما يُكسب اللاعب ثقةً وثقلاً يجعلانه قادراً على خوض المواعيد الكبرى والصعبة بأقدام ثابتة. لكن هذه الشخصية متمثلة في اللاعب فقط وليس الفريق، أي عندما تبدل اللاعبين بلاعبين أقل خبرة وموهبة هل ستحصل على نفس المردود لأنهم يلبسون نفس القميص؟ بالطبع لا.
تلك الجمل تخرج كطريقة يحفظ بها الجمهور كبرياءه بعد تعرض فريقه للإحراج الفني على أرضية الميدان.
خطورة هذا المُعلب في قدرته الكبيرة على إقناع جماهير الفرق السوبر بأنهم مستحقون وفرقهم للانتصار مهما حدث، لأنهم لا يريدون مواجهة حقيقة فوزهم بطريقة غير مستحقة.
- "الهجوم يفوز لك بالمباريات، أما الدفاع فيفوز لك بالبطولات"
لست مهتماً بشرح أيهما أهم، الدفاع أم الهجوم، ولا أهتم بمن قال تلك الجملة فابيو كابيلو أم السير أليكس فيرغسون. أنا هنا لتوضيح مدى سذاجتها وعدم صحتها، هل الهجوم والدفاع منفصلان عن بعضهما من الأساس؟ أم أن حالات اللعب الـ4 (الدفاع، التحول من الدفاع إلى الهجوم، الهجوم، التحول من الهجوم إلى الدفاع) متصلة في سلسلة مُحكمة.
كيف يمكن أن توضع كل حالة في قالب منفصل، ولنفترض ذلك، فكما قال المحلل الرياضي لؤي فوزي متسائلاً في إحدى حلقات برنامجه كيف للدفاع أن يفوز بالبطولات بينما الهجوم يفوز بالمباريات، والبطولات في الأساس مكونه من مجموعة من المباريات!
عندما تنظر إلى بطولات المدربين ذوي الطابع الهجومي تلاحظ أن عدد بطولاتهم أكبر من عدد بطولات المدربين ذوي الطابع الدفاعي. الهجوم يفوز لك بالمباريات، أما الدفاع فيفوز لك بالبطولات، جملة مغلوطة في تكوينها وفي مضمونها، يلجأ إليها المحللون عندما يفوز الفريق الدفاعي فقط، وعندما يخسر ذلك الفريق يغلق المحلل ثلاجته.
ثلاجة المحللين ممتلئة بالمعلبات السامة، التي يقدمونها إلى الجماهير وتتسبب في تشويه نظرتهم للعبة، معلبات يلجأون إليها للهروب من التفاصيل، أو لعدم قدرتهم على تحليل ما حدث بشيء من المنطق، معلبات خطيرة على مَن يؤمن بها.. فهل سيأتي يوم ويغلق المحللون ثلاجتهم، معلنين إفلاسهم وفقرهم المعرفي؟
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.