من يفهم في الحب أكثر:
العجوز الذي خَبَر الدنيا
أم الشابُّ الذي يدرك الواقع؟
لا يهم
المهم أن الحديث عن الحب يُطلق روحاً خفيفة تسري في داخلنا، تشعرنا بسعادة بالغة،
تُبَدِّل نفوسنا، وتطير بنا إلى السماء.
لذا يحب الناس الحديث عن الحبِّ، حتى وإن لم يكونوا في حب.
(2)
متى نعرف أننا نحب؟
عندما تندلع بداخلنا الثورات، ولا يتمكن من قمعها أي قُوى أمن، عندما ترتبك خلايانا ارتباكاً شديداً، ثم تُعيد تنظيم وترتيب نفسها، عندما تختلف نظرتنا إلى العالم ونراه مكاناً رائعاً جميلاً للحياة حتى وإن سادته الأوبئة.
(3)
لكنْ ما الحب؟
قل ما شئت، غير أن الحب لا تعريف له ولا وصف، وكل اجتهاد في تفصيله يُفقده جوهره ورونقه، وكل بحث في سبب وقوعك في حب هذا الشخص بالذات لن يعود عليك بإجابة نافعة وحاسمة ومُرْضِية، فالصفات التي يتمتع بها يتمتع بها آخرون، لكنَّك تحبه هو، تُحِبُّه وكفى.
ويستقيم هذا المعنى في حال الحب الحقيقي.
وهو الذي سيُعَرِّفك عن نفسه، ويدلك على أنه هو النسخة الأصلية، وأن المشاعر التي سبقت في تجارب أخرى لم تكن سوى نسخ مُقَلَّدة، وستجد أنك في غير حاجة لأن تسأل نفسك هل هو حبٌّ حقيقي؟ الذين يُحِبُّون بحقٍّ لا يعرفون هذا السؤال أبداً.
(4)
هل الأوَّل هو الحقيقي؟
الحب الحقيقي هو الأول، وإن أتى متأخِّراً
المسألة ليست بالأسبقيَّة
قد تكون تجربة الحب الأولى وهماً، وترزق الحب الحقيقي لاحقاً
ولأنه رزق فقد تناله من النظرة الأولى، وقد تناله بلا حساب.
تدرك العيون أن أرواح أصحابها هي ما تبحث عنه، ولن تعرف سبباً للحب، فربَّما مرَّ بك من كان أكثر جمالاً أو أكثر وسامة، لكن الأرواح لم تلتقِ، وعندما تلتقي الأرواح لا تُعَكِّرْ مزاجها بالحسابات السخيفة، ولا بالتنظيرات التي لا فائدة منها.
الأرواح هي التي تتحابُّ، ولذا نجد أحياناً زوجين من الأحبَّة تتناقض سماتهما، وتندهش كيف التقيا، وفي هذا دفاع عن فكرتي، إنها الأرواح وكفى.
(5)
هل يخدعنا الحبُّ أحياناً؟
الحبُّ لا يخدع.. أنت من تخدع نفسك
فأنت قد تجد الصفات التي تبحث عنها في شخصٍ فيُهَيَّأ لك أنَّك تحبه، والحقيقة أنك تحب الصفات التي يتمتع بها، وليس هو بذاته.
أهناك فرق؟
إي والله هناك فرق، وفرق كبير.
أنت تحب النضال في الحياة، فإذا ما التقيت شخصاً ما في طريقك يكدح كدحاً في الدنيا أُعجبت به، أو ظننتَ أنَّك تحبه، والحقيقة أنك تحب هذه الصفة، وليس بالضرورة صاحب هذه الصفة.
أنت تحب المرح، فإذا ما صادفك هذا الشخص المرح أُعْجِبْتَ به، أو ظننتَ أنَّك تُحِبُّه، ومرَّة أخرى فإنَّ الحقيقة أنَّك تُحِبُّ هذه الصفة، وليس بالضرورة أنك تحبُّ صاحب هذه الصفة.
هل سببتُ لك ارتباكاً؟
ربما.. سامحني
(6)
لماذا يفترق المحبَّان؟
أجيب السؤال بسؤال:
لماذا يفترُ إيمان المؤمن؟
هذا الذي كان يبكي في صلاته، لماذا بات يصلي سرحانَ في أمورٍ تافهة؟ ثم لماذا عاد تهزُّه الآية هزّاً وهو الذي كان يتلوها مُشَتَّتاً؟
الحب مثل الإيمان، مثل كل المشاعر الأخرى، يشتد ويضعف، يهيج ويهدأ، يعلو وينخفض، وفي دورته الدُّنْيا يحتاج إلى الوقود، يحتاج إلى الغذاء، ويجب أن تختار الوقت بعناية لمَدِّه به، فما فائدة أن تقوم بتغذية خلايا ميتة؟
لماذا يفترق المُحِبَّان؟
لا أعرف!
ربما تمَلُّ الأرواح، ربما تسأم، ربما تبحث عن التجديد وقد تجاهل الطرفان الأمر.
لكن لا تخبرني أنَّ معارك الحياة اليومية، ومستلزمات العيش المشترك، وتبعات الأبناء، تفعل ذلك، بالعكس تماماً.
اسأل الجنود الذين يحاربون معاً في معركة ما، ستجد أن المعركة على قسوتها وشدتها قد قاربت بينهم، إنهم بعد الحرب لا يستطيعون الفراق.
إن المحن تُطَهِّر القلوب وتُقَرِّب بينها.
إذن ربما هو الغياب.
هل يفعل الغياب ذلك؟
نعم "قد" يفعل، وقديماً قالوا في الأمثال: البعيد عن العين بعيد عن القلب. لكن -مثلاً- ماذا عن تلك الفتاة التي تنتظر حبيبها عشر سنوات أو أكثر حتى يُطْلَق سراحه من معتقله ويعود إليها؟
لذا فإن للغياب وجهين: قد يُشعل جذوة الحب، وقد يطفئها تماماً، إنه بمثابة فتنة واختبار.
(7)
أين الجنس من الحب؟
سمعتُ أحدهم وهو يخطب في مريديه أنَّ الجنس هو الهدف الأوَّل من الزواج، شعرت حينها أن أحدهم أصابني بمطرقة.
كيف يحطُّ من أمر الزواج بهذا الشكل؟
كيف ينزل به إلى هذا الدرك؟
لكن هل الجنس بالأساس انحطاط، خصوصاً أنه شرعي؟
بالتأكيد ليس انحطاطاً، هو حاجة طبيعية، وهو تعبير عن الحب، ولا أفهم كيف يمكن لاثنين ممارسة الأمر دون مشاعر الحب، لكن ليس إلى درجة أنه هو الهدف الأساسي من الزواج.
كيف يمكن تصور أن اثنين قررا أن يرتبطا ويؤسسا بيتاً وعائلة ويتحملا مشقَّة تربية الأبناء، لأنَّهما يرغبان في تلبية نداء الجسد؟
كيف نتجاهل الحب والود والتفاهم؟
كيف نتجاهل أن الزواج مشروع ضخم، تلاقت فيه في البداية روحان، فلماذا ينزعون عنه الروح ويُبْقُون الجسد؟
وهل هذا يعني أننا عند اختيار نصفنا الآخر نتأكد من مواصفاته الجسدية وقدراته على الأداء؟
هل كان يقصد زواج الصالونات؟
هل كان يقصد الزواج التقليدي؟
(8)
وبمناسبة الزواج التقليدي.. هل يأتي الحب بعد الزواج؟
نعم بالتأكيد قد يأتي، لكنه أيضاً قد لا يأتي، فما العمل وقد عُقِدَ العقد وتأسست الشراكة؟
هل تقبل بجارٍ على السرير لأربعين وخمسين عاماً لأنَّك كنت تنتظر حبّاً لم يأت؟
لكن ماذا كان يفعل آباؤنا وأجدادنا من قبل؟
هل كان الحب يربطهم قبل الزواج؟
الحقيقة هذا سؤال مهم، لكن يجب الإقرار بعامل الزمان، وبعامل الجغرافيا أيضاً.
فليس كل ما كان سائداً من قبل مقبولاً الآن، والعكس صحيح.
بل ما هو سائد الآن في مكان ما ليس سائداً في مكان آخر.
بل المرأة نفسها تختلف، ففي منطقة ما تجدها تقبل بفكرة التعددية إذا ما ضمنت لها حقوقها، فيما ترفضه امرأة أخرى في منطقة أخرى وإن عُرِضَ عليها مال قارون.
(9)
هل نسعى إلى الحب أم نتركه يأتينا صدفة؟
كن مُتَحَفِّزاً وحسب.
ثم دعه يفاجئك، يبهرك، ويثير ثورتك، يسقط نظامك القديم، ويقيم نظامه، حارب ثورتك المضادة، التي تؤمن بالديكتاتورية والزعيم الأوحد، وافسح لمن يشاركك الحكم هو ومن سيضمه لاحقاً بيتُك الجديد، تنازل عن بعض صلاحياتك، ففي الحبِّ أيضاً شورى وديمقراطية.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.