البرلمان الجزائري القادم: دمية أخرى أم مؤسسة فعالة؟

عربي بوست
تم النشر: 2021/06/11 الساعة 14:16 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2021/06/11 الساعة 14:17 بتوقيت غرينتش
الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون/ رويترز

يتوجه الجزائريون غداً السبت، 12 يونيو/حزيران، نحو صناديق الاقتراع لاختيار نوابهم وممثليهم في البرلمان القادم، في إطار انتخابات تشريعية هي الأولى من نوعها بعد حراك "22 فبراير/شباط" 2019. أعلن عن عقد الانتخابات رئيس الجمهورية عبدالمجيد تبون وفق خطته الانتخابية بعد قراره الصادر حين عودته من رحلته العلاجية بألمانيا. هذه الانتخابات تأتي في سياق سياسي خاص، حيث علاقات مختلفة وجديدة بين مثلث (السلطة-الأحزاب-الشعب). جو اجتماعي واقتصادي غير مستقر ثم تبعات جائحة كورونا الصحية المتفشية في العالم. ما يجعل من الاستحقاق الديمقراطي القادم استثنائياً في أعين الجزائريين الذين يترقبون ما الذي يمكن أن يتمخض عنه كنتائج ستحدد طبيعة المرحلة القادمة.
جاءت مبادرة إجراء الانتخابات التشريعية برعاية من السلطة الحاكمة متمثلة في شخص الرئيس عبدالمجيد تبون والذي من الواضح أنه على عجلة من أمره لاستكمال تعهداته الواردة في برنامجه الانتخابي؛ رغبة منه في كبح اليأس الشعبي المتزايد في الأوساط الجماهيرية التي عبرت عنه في إحجامها عن المشاركة في الاستفتاء على الدستور كإشارة على عدم رضاها. سبق ذلك ورشة لتعديل قانون الانتخابات أشرفت عليها نفس اللجنة التي عدلت الدستور ثم الأمر بقرار حل البرلمان الذي لا تدعمه الرئاسة الحالية الطامحة- على حد قولها- إلى فصل السياسة عن المال. هذه العوامل ساهمت في تصويب الأنظار نحو هذا الاستحقاق الانتخابي الذي يدق الأبواب والذي قد يأتي في تبعاته بجديد للحياة السياسية ولمسار التغيير المتثاقل في البلاد.

قانون الانتخابات الجديد 

أهم ما يطبع هذه الانتخابات التشريعية هو القانون "العضوي" الجديد للانتخابات والأحزاب الجديد الذي أعدته لجنة خبراء عينتها السلطة التنفيذية، وهي نفسها اللجنة التي عكفت على صياغة مسودة الدستور الجديد، هذا التعديل، الذي حمل صبغة تقنية أكثر منها سياسية، مر على عجالة رغم المشاورات التي خاضتها اللجنة والسلطة على حد سواء مع الممثلين السياسيين من أحزاب وتنظيمات المجتمع المدني. ورغم تحفظات ليست بالقليلة إلا أنه يمكن القول إنه أتى بأرضية تسمح- نظرياً- بنفي الطبقة السياسية التي حكم عليها الحراك الشعبي بالزوال، وتسهيل بروز نخب بديلة تمكن من رفع مستوى مؤشر التمثيل النيابي داخل قبة البرلمان وإعادة ربط جسور الثقة بين الحكام والمحكومين.

حمل القانون الجديد حزمة من الإصلاحات الجذرية يمكن أن تمنح نفساً جديداً لعملية التغيير المؤسساتي الذي يتبناه النظام السياسي الحاكم في حقبة ما بعد بوتفليقة. ذاك أنه ألغى صيغة القائمة بالترتيب واعتمد صيغة القائمة المفتوحة، هذا ما سيمكن من أمرين أساسين هما القطيعة مع المال الفاسد الذي كان يشتري رؤوس القوائم في السابق ومنح الصوت الانتخابي مساراً دقيقاً بتمكين الناخبين من التصويت على أي مرشح في القائمة. ألغى القانون كذلك  نظام المحاصصة النسوية السابق والذي كان يخصص ثلث المقاعد الفائزة للمرأة ليعتمد نظام المناصفة بين الجنسين، كما ذلل العقبات البيروقراطية أمام المترشحين وضبط شروط الترشح من خلال إنزال العتبة العمرية ما دون 25 سنة، ومنع النواب السابقين لعهدتين بأثر رجعي من الترشح.

لكنه على الجانب الآخر لم يخلُ من جوانب سلبية تتعلق عموماً بالعملية التنظيمية للمسار الانتخابي الذي وإن تم سحبه من الإدارة العمومية وإسناده للسلطة المستقلة، غير أنه لم يستطع إبعادها كلية عن سطوة الجهاز التنفيذي، وبقي يحوز على فجوات قانونية قد تضر بنزاهة الاستحقاق بشهادة قانونيين وحقوقيين وأحزاب سياسية.

هذا ما صاغ مشهداً انتخابياً لم يعهده الجزائريون من قبل، وإن كانت الحملات الانتخابية باهتة لعدة عوامل تتراوح بين ضعف الممارسة السياسية للسواد الأعظم من المترشحين والظروف الصحية المعروفة، إلا أن اللافت للنظر هو خزان المترشحين الكبير كماً ونوعاً الذي قد يؤشر على ميلاد ثقافة العمل السياسي لدى أوساط واسعة من الشعب، قد تخلق هامش تغيير فقدته الجماهير. لكن هذا التنوع جاء بطابع فوضوي؛ من خلال الحضور الملاحظ للقوائم المستقلة بأكثر من 837 قائمة حرة مقابل 646 حزبية-  كظاهرة تستحق البحث في سوسيولوجيا السياسة- التي تنافس الأحزاب السياسية المهيكلة، وخصوصاً توصيل رسالة قوية عن عدم ثقة شرائح واسعة من الشعب في الوسائط السياسية الموجودة على الساحة، ما يفضح الإفلاس الذي تقبع فيه الأحزاب السياسية في البلاد وانفصالها عن الحاضنة الشعبية، بل حتى عن قواعدها النضالية التي فضلت خيانة الالتزام الحزبي في كثير من النماذج.

مهما كانت نتائج الانتخابات التشريعية القادمة فهذا لن يغطي على فرضية إقرارنا أن الممارسة السياسية في الجزائر لا تزال بعيدة جداً عن الأسس العريقة للديمقراطية التي تضمن السلطة والسلطة المضادة وتضمن الأداء النيابي المطلوب لمراقبة ومحاسبة السلطة التنفيذية المستأثرة بكل شيء.

فسيفساء برلمانية

إن استشراف ما يمكن أن تفرزه هذه الانتخابات وما بعدها صعب، ذلك بسبب العرض المتخم من المترشحين والطلب الضعيف للأصوات الناخبة، وكذا غياب مؤشرات عن موقف السلطة الحقيقي لما سيحدث، لكن قراءة المشهد بواقعية سياسية توحي بأننا على موعد مع "فسيفساء برلمانية" قد تدخلنا التاريخ برقم قياسي من التشكيلات الحزبية والمستقلة. ولهذا أسباب عديدة، أولاً غياب رؤية واضحة عن الكتلة الانتخابية المقبلة على التصويت كماً وكيفاً، هذه الكتلة تنقسم إلى فئتين، فئة المعارضة المعلنة وهذه الفئة النشطة في بقايا الحراك وعلى وسائل التواصل والتي تعتمد على الأسلوب الكلاسيكي الراديكالي؛ وهو المقاطعة التامة، وفئة المحايدة الصامتة التي لا لون حزبياً لها والتي ستصوت لكنها لن تقول لمن. ثانياً الحسابات الخاصة في التصويت التي تتسم بها التشريعيات في الجزائر وهي اختيار المرشحين على أساس العشائرية والقبلية والمعرفة الشخصية، وهذا إفراز طبيعي لإفلاس البرامج الانتخابية للمترشحين ولقصور الوعي السياسي للمنتخبين. ثالثاً عدم جدوى الخلفيات الحزبية في المعترك الانتخابي لكون الالتزام الحزبي لا مكان له في الوعي الجماعي، ولكون الأحزاب السياسية بدورها لا تملك جسور تواصل مع قواعدها الشعبية أو النضالية حتى. وأخيراً غياب تحالف حزبي معلن بين النظام وأي من القوى السياسية كأحزاب كانوا أو أشخاص.

البرلمان القادم: دمية أم مؤسسة قوية؟ 

كيف ستتعاطى السلطة مع هذه التشريعيات وإفرازاتها؟ من المستبعد أن تلجأ السلطة لتحريف المسار الانتخابي لعدة صعوبات تواجهها أمام الضغط الشعبي وكذا النصوص القانونية الجديدة التي قلصت من صلاحيات الإدارة في العملية الانتخابية، ولا يمكن بأي حال التشكيك في نية عبدالمجيد تبون في إقامة انتخابات نزيهة، وما تمرير القانون العضوي بمرسوم رئاسي سوى ضمانة رمزية منه على ذلك. لكن الرئاسة في المنظومة الحاكمة في الجزائر تعرف مقاومة فرعية من مختلف الإدارات. ومثلما قد تكون قراراتها أمراً يطبق حرفياً قد تكون أيضاً فعلاً معزولاً لو أراد من هم بالأسفل معارضته. قد يكتفي النظام بمشاهدة اللعبة حتى نهايتها لكنه يتمنى بما لا شك فيه برلماناً دون أغلبية حزبية بما يخدمه دستورياً في مواصلة السيطرة على الحكومة التنفيذية بطابع رئاسي وتهميش المؤسسة التشريعية، ولهذا فإن فوضى العرض الانتخابي وكثرته تخدم أكثر ما تخدم النظام الذي سمح بها، هذا سيجعل من البرلمان القادم "مؤسسة دمية" لا لون لها ولا تأثير، كما سيراهن النظام القائم على نسبة مشاركة أعلى بعد صفعة الاستفتاء الدستوري في سبيل البحث عن شرعية شعبية أكثر زخماً لتعزيز موقفه الداخلي والخارجي، وهذا هو أكبر مكسب يمكن أن يجنيه النظام بعد أن سخر له كل الترسانة الإعلامية التابعة له.

أما عن الأحزاب السياسية التقليدية، فكل منها يدرك- أو يجهل على الأقل- عدم قدرته على أخذ أغلبية ضامنة، لكن الجميع يحاول كسب أكبر عدد مقاعد تجعله يتموضع في موقف مريح يجعله لاعباً رئيسياً في المواعيد القادمة، وباستثناء الإسلاميين متمثلين في حركة مجتمع السلم، حركة البناء الوطني وجبهة العدالة والتنمية ذات الوعاء الانتخابي المعتبر، فلا توجد تشكيلات سياسية قادرة على حسم الأمر عملياً، خصوصاً أحزاب التحالف المغضوب عليهم جبهة التحرير والتجمع الوطني. لكن مما لا شك فيه أن ورقة النواب المستقلين ستكون صاحبة الكلمة في أي مشروع أغلبية برلمانية ثم حكومية يمكن أن يرى النور داخل المجلس القادم، هذا ما من شأنه أن يخلق هامش مناورة لدى الجماهير الشعبية التي أدركت خطأ خيار "المعارضة الراديكالية" التي كلفتها تشتيت الحراك الشعبي المليوني الذي لم يبق منه سوى فئات تحاول فرض أيديولوجيات تخدم مصالحها فقط.

خاتمة 

بقي أن هذه الانتخابات التشريعية- على ظروفها الاستثنائية- فرصة قادرة على رسم أفق جديد للحياة السياسية في الجزائر لو استطاع الجزائريون استغلالها، طالما لم تتبق لهم حلول عملية أخرى أمام نظام حاكم أكثر تجانساً وتناسقاً منذ سقوط الرئيس المخلوع عبدالعزيز بوتفليقة. لعل أكبر خطيئة يمكن أن تقوم بها الجماهير في الجزائر هي العودة إلى حالة الاستقالة السياسية التي كانت قبل حراك "22 فبراير/شباط"، خصوصاً أنهم ضيعوا الكثير من الفرص لتحقيق مكاسب أكبر، لذا فالدخول في لعبة النظام أرحم بكثير من تركه يلعب وحده. هناك مباريات قد تكون فيها دكة الاحتياط خيراً ألف مرة من ترك الفريق والمشاهدة من التلفاز!

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

بوودن رمزي
طالب ومدوّن مهتم بالشأن السياسي والثقافي
طالب طب بكلية قسنطينة في الجزائر، ومدوّن مهتم بالشأن السياسي والثقافي عربياً وعالمياً، وكاتب في العديد من المواقع والمجلات العربية.
تحميل المزيد