بكشاف الإنارة الصغير سلّط الطبيب إضاءته في حدقات عين المريض وهو يرفع جفنيه بإصبعيه السبابة والإبهام، ثم نظر متعجباً سائلاً الممرضة: "انت متأكدة إنه فتح عينيه، لتجيب الممرضة أيوه يا دكتور والله العظيم أنا شوفته فتح عينيه وكلنا شفناه، ليرد الدكتور: بس أنا مش شايف أي تغيير في الحالة، إنما لو فتح عينيه فعلاً يبقى لسه في أمل، لتخرج الكاميرا على لقطة لرجل كبير في السن يجلس في مصلاه، وفي الخلفية صوت برق ورعد، يدعو الرجل قائلاً: يا رب ما تخذلناش يا رب ده احنا ملناش غيرك.."
فيلم "الغايب"، المحسوب إنتاجاً وكتابة وتمثيلاً على المعارضة المصرية قدم تطوراً كبيراً في الحالة الفنية للمعارضة المصرية في الخارج، وإن كنت دائماً ما أؤكد على خلط المصطلح، فهي مقاومة سلمية وليست معارضة، وسنعود لفهم المصطلح لأنه يمثل جزءاً مهماً من فكرة هذا المقال، فالمقاومة السلمية في الخارج، منذ أن اتّخذت من تركيا قاعدة انطلاق ومقراً لها، عملت على محورين مهمين، هما العمل الحقوقي والعمل الإعلامي والفني على استحياء، فقدمت في مضمار الفن، والذي يعد واحداً من أهم أدوات التوعية والتثقيف وبناء الشخصية، عدة سهرات خفيفة في محاولات أولية كافح من أجلها عدد من الممثلين، قبل أن تنضم إليهم قامات فنية كبيرة في التمثيل والكتابة، لتلتفت المقاومة السلمية لحقيقة تأثير الدراما، وتضخ فيها مزيداً من الجهد والمال.
ولعل مناخ الحرية الذي عاشته المقاومة السلمية المصرية في تركيا حتى هذا العام قد فتح المجال للإبداع، فلا إبداع بغير حرية، وإن كنت أرى أن مواضيع كثيرة كان من الواجب فتحها استفادت من هذا المحيط الحر الذي عاشه الفنان المصري من غير رقيب ولا توازنات سياسية أو اقتصادية تجارية تؤطر الدراما في مصر، وتضعه على طريق لا يستطيع سلوك غيره إلا في حدود المتاح والمسموح، ممن يهيمن على مقاليد الأمور، مع ذلك فأرى أن ما قدمه الفنانون المصريون في تركيا كان جيداً في ظل المتاح من الإمكانات البشرية والفنية والمادية، فمن "نقرة ودحديرة" بأجزائه الثلاثة إلى فيلم "بسبوسة بالقشطة" إلى "شتاء 2016" إلى مسرحية المسحراتية وصولاً إلى "الغايب"، ما يعد إنجازاً يُشكر عليه من حفر بأظافره كي يوصل رسالة سامية بأداة سامية لشعب يحاول من يقبع على مقاليد أموره أن يغيّب وعيه ويقلب له الحقائق بمكر الليل والنهار.
واستطاع إعلام المقاومة السلمية ككل، والإنتاج الدرامي منه خاصة أن يصنع بإمكاناته الضئيلة ما لم يستطع أن يفعله إعلام النظام بملياراته من خزانة الدولة، أو التي تضخ من كل من السعودية والإمارات، فلقد حقق إعلام المقاومة، مع تحفظنا على الأداء والطرح في بعض المساحات، أن يلحق بمليارات النظام وكفلائه من الخليج هزائم كبيرة بسحب المشاهد إلى شاشات المقاومة السلمية، ولا لشيء أكثر من عدالة القضية وصدق مقدمها واتساقه مع الواقع المعاش مع أبناء شعبه، وكانت ضربات الدراما أقوى وأشد على النظام.
ورغم أن دراما المقاومة السلمية المصرية في الخارج ذهبت في أغلبها لموقف الدفاع، وهو الموقف الذي اضطرتها إليه الظروف، بسبب القمع الذي مورس على أبنائها، فاتخذوا من المظلومية سبيلاً لأغلب مواضيعهم، إلا أن بعضاً من تلك الأعمال الدرامية ذهبت إلى مساحات التوعية والتحذير مما هو آت، وهو ما يحسب لها ولكاتبيها، ولعل قلة الإمكانيات تسببت في عدم ظهور أعداد لا بأس بها من السيناريوهات المكتوبة، والتي لو كانت قد ظهرت للنور لكنّا نتحدث عن دراما عالمية، وإن كان أحد الأعمال الدرامية لسينما المقاومة السلمية قد وصل إلى هذه المرحلة، ففيلم بسبوسة بالقشطة قد حاز الجائزة الماسية كأفضل فيلم قصير، والجائزة البرونزية في فئة السيناريو، من خلال مشاركته في المهرجان الأوروبي للأفلام المستقلة، وهو ما يعني أن تجربة الدراما الأولى فتحت الباب لتجاوز العديد من التحديات، ما يمهد لتجارب أكثر نضجاً، يمكن أن يكون فيلم "الغايب" بداياتها من حيث الجودة الفنية.
عودة إلى المشهد الذي صدرنا به المقال، وهو مشهد الطبيب الذي يجري الفحص على المريض المصاب بالغيبوبة، وكلمته في ختام المشهد: "بس أنا مش شايف أي تغيير في الحالة.. إنما لو فتح عينيه فعلاً يبقى لسه في أمل" يجسد فيلم الغايب رمزية ثورة يناير في حسام الذي أصيب في أحداث محمد محمود، وكما أن حسام رمزية فإن اختيار إصابته في أحداث محمد محمود له دلالة كبيرة لشباب ثورة يناير، حيث تعد أحداث محمد محمود مفترق طرق، بين من أراد أن يكمل الثورة ومن أراد أن يبني الدولة.
ولعل الجدل الدائر بعد عشر سنوات من ثورة يناير يتمحور في أولوية الثورة أم الدولة أولاً، ولعل هذا الخلاف الذي عمقه المجلس العسكري "الحاكم" بدغدغة مشاعر الجميع وإثارة شهوة السلطة لدى الجميع، على المستوى السياسي، وتعظيم فكرة الاستقرار لدى المتابعين من أفراد الشعب غير المؤدلجين أو المنخرطين في الثورة أو العمل السياسي أو حتى الشأن العام أصلاً، هو ما جعل الأحزاب تتسارع وتتصارع من أجل سحب الكرسي من تحت المجلس العسكري، فإن كان الأغلب قد أجمع على هذا الهدف، لكن شباب الثورة الواضح في أذهانهم معناها كان أكثر إدراكاً لمآلات الأمور فأرادوها ثورة (تشيل ما تخلي) كما كانوا يهتفون في الميادين، فمن هذا المنطلق كان خلاف رفقاء الثورة في فيلم الغايب، حتى إن بعضهم انخرط مع النظام الجديد ينظر له ويدعمه، بل إن أحدهم أصبح جزءاً من النظام الجديد، النظام المنقلب على الثورة، رغم استشهاد رفيقتهم، ودخول رفيقهم في غيبوبة سببها له النظام الذي يتماهون معه.
لقد كانت مذكرات حسام بطل فيلم الغايب على سريره في المستشفى، رسائل رمزية بأن الثورة تكنّ كل الحب والاحترام لأبنائها على اختلاف مشاربهم بين يساري وليبرالي وإسلامي، وهي الشخصيات التي جسّدها أبطال الفيلم، ولعل الممرضة "ليلى"، أو هكذا اسمها في الفيلم، التي سهرت على "الغايب" حسام في محاولة لاستعادة الثورة أو حسام عافيته تمثل حالة غير واقعية في حياتنا المعاشة، فدعوات الاصطفاف مازالت تلقى تمنعاً من أطراف بعينها، راكبين مركب الريبة غير آبهين بمآلات ذلك.
رسائل الغايب
فيلم الغايب حمل الرمزية، لكنه حمل معها رسائل سلبية ما كان لها أن ترسل الآن، رغم أن الممرضة جمعت أبطال الفيلم، أو شركاء الثورة حول حسام في مشهد توسطه خلاف وصل إلى حد التلاسن والاتهام بالخيانة بين رفقاء الثورة، في إشارة على أن الرفقاء اتفقوا على ألا يتفقوا، وفي مشهد مهم في بداية الفيلم يسأل أبو حسام الطبيب عن إمكانية تعافي "الثورة" أو حسام، في لهفة يقول الأب المكلوم: "يعني هيفوق ايمته؟ ليرد الطبيب: الله أعلم!" وفي أول رد فعل لرفقاء حسام بعد إقرار الطبيب أن حالة حسام غير مستقرة وأنه دخل في غيبوبة لا يعلم متى يفيق منها، كان رد رفيقه سامي عندما هدأه رفيق دربه خالد مطمئناً أن حسام سيتعافى، قال سامي: "بلاش أوهام بقى يا خالد هو في كم حد بيفوق من الغيبوبة".
ورغم أن سامي كان أكثر شركاء الثورة راديكالية فإنه تحول وأصبح نائباً في برلمان الانقلاب، في رسالة أخرى مفادها "كل واحد يشوف مصلحته"، حتى الدكتور المتعاطف مع الحالة عندما هُدد من ضابط الأمن الوطني خشي على ابنه، وإن لم يخُن الثورة أو حسام، فتحمل قدر ما يستطيع في حدود ما يملك، وهو ما لم تفعله سمية الممرضة في المستشفى وصديقة الممرضة ليلى وكاتمة أسرارها، التي ضعفت تحت ضغط السلطة وتحولت إلى جاسوس ينقل أخبار حسام ومن حوله، رسالة أخرى بأن الوهن ضرب جنبات الثورة والمعاش أولوية.
كان المشهد قبل النهائي الذي تخبر فيه الممرضة ليلى الرفاق بوفاة "حسام" رسالة أشد قسوة علينا جميعاً وهو ما جسده الرفاق في رد فعلهم أثناء تلقي نبأ وفاة أملهم بعودة حسام من غيبوبته.. تقول ليلى: "مش دايماً كل النهايات بتكون سعيدة والأمل اللي بتعيش عشانه ممكن لما يجي يضيع منك في ثانية والندم مش هايفيد" وإن كان خبر وفاة حسام خدعة لتهريبه إلى الخارج، فإن رسالة استحالة مواجهة الثورة للنظام بعد استعادة جبروته وعنفه وبطشه كانت طعنة أخرى في قلب من حلم بمصر أفضل، ولا يشفع للكاتب الرسالة الصوتية التي أرسلها حسام في مشهد الختام "صحيح العمر قطر بيمشي في اتجاه واحد سكة مالهاش رجوع، لكن كل سكة بتعدي ممكن تكون نهاية، وممكن جداً تكون بداية" فهل البداية هي هروب حسام وزواجه من ليلى.
أزمة الفيلم أنه يأتي في ظروف صعبة تعيشها الثورة، حتى من خرج من مصر لاستعادة عافية ثورته وجد صعوبة كبيرة في ذلك، سواء على مستوى تنظيم الصفوف والتفاهمات وتفويت الفرص أو من خلال المصالح الدولية التي قد تقف عائقاً أمام استكمال الثورة، ورفقاء الداخل تحت ضغط الاعتقال أو التصفية، نفقد أدواتنا، لكن لن نفقد إيماناً بثورتنا ومبادئها، فما أردنا يوماً إلا الإصلاح، وما أردنا يوماً إلا أن نرى مصر في مكانها الحقيقي بين الأمم، مستفيدين من قدراتها البشرية والمادية، ستبقى الثورة في صدور كل مخلص لهذا الوطن بمبادئها، نربي عليها أولادنا، ونوصي بها من سيأتي بعدنا وبعدهم، وسيأتي اليوم الذي يقف فيه رئيس مصر الذي اختاره الشعب بين الأمم رافعاً رأسه، مباهياً بإنجاز هذا الشعب العاشق لتراب هذا الوطن، فحسام لم يمت "ومش غايب".
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.