أمل.. فتاةٌ أعرفها وتعرفها بالتأكيد، ولكنك لا تنتبه لها، بالأمس نشرت أمل كعادتها على حسابها الشخصي بمواقع التواصل الاجتماعي منشوراً مُلخَّصه أنها تمر بفترةٍ سيئة للغاية.
في الحقيقة، لا أعرف الدافع وراء هذا المنشور، ربما لم تجد غير تلك الطريقة لتُعبّر بها عما تمر به، ربما كانت تُرسل رسالة مستترة لكل من يهتم بأمرها أن ينظر لها بعين اللطف، لا أعلم، ولكن كعادة منشوراتها لا ينتبه لها الكثير، ولمزيدٍ من الدقة لا ينتبه لها أحدٌ على الإطلاق، برغم أن لديها عدداً لا بأس به من الأصدقاء، وكثيرٌ من المعارف القريبة والبعيدة ولكن، لا أحد اهتم للأمر.
لقليلٍ من الإنصاف في وصف هذا، الجيِّدون منهم مرُّوا مرور الكرام بلا أي همساتٍ تُذكر، والأوغاد منهم كانوا يسمّونها "متسوّلة"، هي قطعاً لم تتسوّل منهم الأموال ولكنها تتسوّل الاهتمام، هكذا قالوا.. ثم مرُّوا.
على الرغم من أن أمل كانت فتاة تحب المرح كثيراً ويلتف حولها الكثير في مرحها مبتهجين بتلك الترددات الإيجابية التي تهبها لهم، إلا أنها كأنها موصومة بين أقرانها بلعنة "الدراما كوين"، كانت تختلق الدراما كثيراً كثيراً، هكذا قالوا، أما هي فلم تُعلّق على الأمر، لأنها رحلت عن عالمنا صباح اليوم، كان رحيلها خفيفاً هادئاً وكأنها ليست المرة الأولى في تجربة الموت.
الغريب في الأمر أن رحيلها تحوّل أيضاً للقطة درامية، انهالت عليها عبارات من الحُب هنا وهناك، جميع الأصدقاء وجميع المعارف، تقبّل الله منهم جميعاً ولكنني لم أستطع منع عقلي من التساؤل، كل هذه العبارات الحارّة أهي صنيع الحب فعلاً لتلك الفتاة التي عاشت عمرها بأكمله تطالب بقليلٍ منه؟ كانت فقط قبل أيامٍ تصرخ في كل الأرجاء بأن يعيّرها أحدهم فقط ولو لدقائق من الدعم الذي لا يكلّفه الكثير، ولكن بالتأكيد كان سيعني لها الكثير، على الأقل كانت ستشعر أنها ليست بمفردها في كل هذا، وأن هُنا على هذه الأرض مَن يتفهّم ما تشعر به، على الأقل كانت ستشعر أنها لم تستنزف سنوات عمرها بالكامل بجوار أشخاصٍ يقولون إنهم أصدقاء ولكنها لم تشعر ولا مرة من المرات أن منهم صديقاً حقيقياً.
جاهدت كثيراً أن أبعد تلك الفكرة السوداء عن رأسي؛ فكرة أنني أشعر بالرعب من أن تكون كل هذه العبارات الحارّة مدفوعة برباطٍ رفيعٍ مستتر من الذنب الذي يحاول جاهداً أن يستر نفسه بداخل كل هؤلاء الذين لم يقدموا الدعم، وكأنه جانب الإنسان المظلم، مرة أخرى لم يهتم ولم يتعاطف معها بقدر ما كان يهتم أن يبرر لنفسه بتلك العبارات أنه لم يكن سيئاً لهذه الدرجة.
ردَّدت أمل على صفحتها الشخصية: "لم أكن وحيدة، كانت لديّ مكتبة وعصفور وفي"، الآن تفتقدها مكتبتها ويبكي عصفورها الوفي.
أمل.. فتاةٌ من وحي خيالي، ولكن قصّتها تتكرر يومياً، أنا شخصيّاً قابلت أمليْن في طريقي، ولكننا لم نكن أصدقاء من قريبٍ أو بعيد، تداولت قصصهما على مواقع التواصل الاجتماعي فسمعت عنهما بعد رحيلهما، تعاطفت معهما كثيراً وخشيت أن أصبح أملاً في يومٍ من الأيام، والأصعب من هذا، خشيت كثيراً أن تكون أملاً في حياتي وأنا لا أنتبه، فنظرت مرة أخرى في علاقاتي، رحلت عن الكثير وأبقيتُ فقط كل شخصٍ كان ومازال حقيقيّاً معي، صديقةٌ أو اثنتان، وكان فضل الله عظيماً.
هذا ليس كل شيء، تغيّرت نظرتي لمن حولي أيضاً، أصبحت أنتبه كثيراً لكل من هم أمل، أقدّم الدعم ما استطعت ولو بتفاعلٍ لطيف على مواقع التواصل، فربما يُحدث شيئاً ولو قليلاً.
العالم مكانٌ قاس لا نفهمه، يُرعبنا كل يومٍ بحقيقة أننا نقاط ضئيلة في فضائه، كل نهاية تتوقع عدم حدوثها الآن تحدث بالفعل وبطريقة أكثر من درامية، وما يجري على الآخرين يجري عليك أيضاً، العالم لا يعدك بأي شيء، ليس مُلزماً تجاهك بأي معروف، ولكن على الأقل إن كان بإمكانك تقديم بعض اللطف لكل من يعاني في معركته الخاصة، فقدّمه، وإن لم تستطع.. فاجعل مرورك كريماً هادئاً.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.