هل المرأة حرة فعلاً في اختيار شريك حياتها؟

عربي بوست
تم النشر: 2021/06/07 الساعة 09:18 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2021/06/07 الساعة 09:19 بتوقيت غرينتش
iStock

"أنا لا أحبه، تزوجته لأنه كان أفضل العروض، كنت حينها قد بلغت سن الزواج" شهادة واقعية لإحداهن. 

 إذا دققنا في تفاصيل معيشنا اليومي نرى سيطرة المرجعية الذكورية ليس كميزة حصرية للبلدان العربية والمسلمة، بل في كل بلدان العالم، ولو بتفاوت في الدرجات. كما تتواصل إلى اليوم الأسبقية الاقتصادية على مستوى الأجور بالنسبة للرجال في مختلف بلدان العالم. وتستمر ممارسات تشيئ المرأة والتعامل معها على أساس اختصارها في الجسد. أما إذا واصلنا التنقيب باجتهاد عالم أحياء أو عالم آثار على القطع المكونة للوجود الإنساني في أبعاده الشاملة، تبينا مواطن أخرى لسيطرة هذه العقلية. 

من هذه المواطن العلاقات الثنائية بين المرأة والرجل التي يمكن دون مبالغة اعتبار أغلبها مثالاً صارخاً، بل وقحاً على ذكورية تأبى التراجع. إن الرجل يستفرد لنفسه بالحق في اختيار شريكته ويتعامل معها على أساس اعتبارها فريسة يسعى للحصول عليها. في حين لا يسمح للمرأة بأن تبادر بالتعبير عن مشاعرها.

طبعاً العلاقات الثنائية الحصرية ليست الصنف الوحيد من العلاقات الموجودة (لعدة اعتبارات) ولا يمكن الجزم بأنه الصنف الأمثل لجميع الناس على اختلاف اختلافاتهم (لأنها تتطلب درجة عالية من الوعي والمسؤولية).

والمفارقة هنا هي أن النوع الوحيد من العلاقات التي يسمح بها النظام قانونياً وأخلاقياً تبين خلله وانحيازه الذكوري. 

محرك العلاقات 

يؤكد أخصائيو العلاقات المحليون والأجانب على ضرورة أن تتقن المرأة لعب دور الفريسة. فيقول هؤلاء حرفياً إنه في أول العلاقة كلما امتنعت المرأة عن التواصل مع الرجل وتمنعت حتى على قبول مبدأ العلاقة، أمعن هذا الأخير في السعي إليها والبحث عنها، يحذر المختصون في نفس السياق من أن تقوم المرأة بالخطوة الأولى وتعترف للرجل بالحب أو الإعجاب. 

هذا النمط من التفاعل بين الجنسين يجد صداه في المجتمعات العربية والغربية على حد سواء. هذا التصرف يحيلنا إلى وضعية الرجل البدائي الذي يسعى نحو فريسته مدفوعاً بغريزته ومستثمراً وقته وجهده في ذلك، أي أن المحدد الأساسي في تصوره وبنائه لأولى لبنات العلاقة غريزية بحتة ليس بالضرورة جنسية، لكن أيضاً فيها جانب حب التملك. هذه الغريزة تتمظهر خاصة في شبه القاعدة المسلم بها التي تقول إن كل ممنوع مرغوب. هذا يدل على أن الرجل يضع على رأس أولوياته غرائزه، يعامل المرأة كشيء ويستأثر لنفسه بحق الاختيار.

طبعاً تتقن العديد من النساء فن الإغراء، أو أياً كان اسمه، وهن على وعي بما لذلك من قدرة على التحكم في الرجال. بيد أن الوضعيات تختلف كما أن الانجذاب الجسدي المجرد، إن لم ترافقه عناصر أخرى، لا يمكن أن يبني لعلاقة متينة. يؤكد هنا الإنسان أنه رغم اعتداده بمظاهر التقدم فإنه يبقى وفياً لطبيعة بشرية حيوانية تتناقض تماماً مع مفهوم الحضارة. في البدائية ينحصر دور المرأة بل سبب وجودها أصلاً في إعادة الحياة أي ضمان استمرارية النسل في حين يرجع للرجل الفضل في تلقيح المرأة. كما يضطلع بفضل ما حبته به الطبيعة من تفوق جسدي بالصيد والإعالة والغزو فيستأثر كنتيجة بقيادة المجموعة أو العشيرة. هذا الاختلاف في موازين القوى يحكم على المرأة بوضعية الخاضع والمسيطر عليه ويمتع الرجل بأسبقية السيطرة. في وصفها للوضعية الحيوانية تقول سيمون دو بوفوار بما معناه إن هذه الخصائص البيولوجية تهيئ الرجل للاستقلال والانفتاح الخارجي في حين تخضع المرأة للتبعية والتقوقع والحدود الداخلية. ونظراً لأننا أقرب إلى المجتمعات العربية الشرقية المسلمة والمحافظة فإننا نتجرأ على محاولة تأصيل هكذا دليل قواعد لعلاقات "ناجحة". 

إن كل امرأة تتجاسر على التعبير عن مشاعرها هي بنظر الرجل ناقصة حياء ديناً وأخلاقاً. يعود هذا الحكم الأخلاقي إلى طبيعة تصور الرجل العربي لمؤسسة الزواج ولضرورة أن ترتقي الشريكة لدور المرأة الفاضلة حاملة اللقب وحامية العرض. يساند هذا المبدأ جهاز كامل من موروثات ثقافية ودينية ويمكن الاطلاع على أنواع الزيجات المباحة حالياً والمقبولة شرعاً وعلى معنى المهر وما تطالب به المرأة من حقوق، لتبين موقعها في مؤسسة الزواج من ناحية دينية.  إن أكثر النساء حظاً هو تلك اللواتي يصادف أن يعجب بهن نفس الرجل الذي يكنن له المشاعر وإلا يضطررن إلى الارتباط بمن ترتضين أخلاقه فقط.. وبصفة عامة فإنهن يكيفن ما لهن من خيارات محدودة مع ما يردن ويصورن لأنفسهن وهما أن أفضل تلك الخيارات يتوافق ما يشتهين فعلاً. نفس هذا الاعتبار يسود أثناء العلاقة ويتحكم فيها: كلما استسلمت المرأة لمشاعرها وكلما تهيأ لها أن بإمكانها التعبير عنها، نفر منها الرجل، إذ إن هذا الأخير يغوى المطاردة والبحث والشقاء المتواصلين. فإذا تأكد من امتلاك حبيبته أو زوجته غير رأيه وجنح مرة أخرى لتقمص دور الصياد. فأي عبثية تتحكم بهذا المخلوق البائس (الإنسان)؟ وأي احتمال لإمكانية السعادة والإحساس بالانتماء يمكن لامرأة عاقلة أن تتوقع وهي على مفترق طرق في حياتها؟  

التأصيل العلمي لهذه الظاهرة 

النظام العالمي ذكوري.. هذه أولى المعطيات التي يجب أن ننطلق منها وأن نبني عليها إذا أردنا نقد، وبالتالي الارتقاء بوضع الإنسانية حالياً. هذه الجملة البسيطة في شكلها والعميقة عمق البحار في معناها ليست أبداً تحذلقاً لغوياً أو تصنعاً معرفياً. إن النظام هو كل ما يحيط بنا وما يكون العالم من مؤسسات اقتصادية سياسية تعليمية اجتماعية وحتى فكرية. إذاً هو كائن موجود فعلياً وليس من صنف الخرافات… وطبيعته هي التي تحدد، ما هي وجودنا ودرجة سعادتنا؟ أما توصيفه بالذكوري فهو ليس ادعاء نسوياً بل إن من نظروا وقدموا الأدلة والبراهين قائمة على ذكوريته هم رجال لم تكن تعنيهم وضعية المرأة بقدر ما طمحوا إلى انعتاق جماعي وخلاص للبشرية جمعاء. حافظت المكونات الكبرى والتاريخية لهذه الذكورية على طبيعتها بدءاً بتفرد الرجل بالملكية وهيمنته الاقتصادية إلى احتكاره القرار في شؤون الإرث والتوريث للألقاب والملكيات وحصر النبوة والرسائل الإلهية في شخصيات ذكورية.

في محاولة تحليل طبيعة العلاقات البشرية موضوعياً نعتمد العلوم الإنسانية. لدحض هذا التحليل قد يذكرنا البعض بأن هذه العلوم الغير صحيحة ليست سوى محاولة قد تصيب أو قد تخطئ لفهم الذات الإنسانية،  وأنها موضوع أبحاث غنية وتشمل فروعاً متشعبة. لكن ذلك لا يرتقي لقدرة التشكيك في صحة وجود هذه العلاقات ولا حتى في درجة انتشارها. قد يقول آخرون إن جميع البشر لا تحركهم نفس القناعة، وإن كل فرد هو نتاج المعطيات المادية التي رافقت نشأته من ظروف اقتصادية وما تفرزه من علاقات اجتماعية وحتى شخصية. وهذا رأي مادي ماركسي يجب توضيحه لأنه يحمل بارقة أمل لهذا الوجود الإنساني التعيس، إذ إن ماركس يولي فعلاً أهمية للوجود المادي ويعتبره كائناً حياً في تطور مستمر ومحدداً للأيديولوجي. فما يعيشه الإنسان من تجارب والواقع الاقتصادي الذي يفرز علاقات الإنتاج وحتى العلاقات الاجتماعية لها سيرورتها التاريخية. فيقول: خلافاً للفلسفة الألمانية التي تنزل من السماء إلى الأرض (يقصد الفلسفة المثالية لهيجل) نصعد هنا من الأرض إلى السماء.

 فنحن لا ننطلق مما يقول ويتخيله ويتصوره البشر، ولا من ذاتهم كما تتجلى في الكلام والخيال والفكر وتصور الغير، حتى نصل بعد ذلك إلى البشر لحماً ودماء، بل نحن ننطلق من البشر في عملهم الحقيقي، فبالانطلاق من نوعية حياتهم الحقيقية وتطورها نصور أيضاً تطور الانعكاسات والأصداء الأيديولوجية لهذا المجرى المعين للحياة. في الماركسية نجد إذاً إمكانية وجود أشخاص ذوي وعي متمايز يرتقي فعلاً بالوجود الإنساني. تتقابل الماركسية مع الوجودية النسوية لسيمون دو بوفوار في إنكار أن يكون للإنسان مجموعة محددات أيديولوجية وبيولوجية حية تسبق وجوده المادي وتنفي أن تكون السيطرة الذكورية مصير الإنسانية أو شكل الوجود الوحيد. 

فإذا تولى الوجودية أهمية للوجود الإنساني المادي وتسند للإنسان الحرية في اختيار وتشكيل قناعاته الخاصة، أي منطلقات تعامله مع غيره، فإن الوجودية النسوية ترفض إنزال المرأة في الوضعية الحيوانية وتحديد شكل وجودها مسبقاً بطريقة آلية. إن الأنوثة لا تبيح لمجتمعات اليوم تقسيم الأدوار بشكل ظالم للمرأة كما لا تعطي الحق في استئثار الرجال بامتياز الاختيار والتعبير عن نفسه.

قد ينكر الكثيرون هذا الواقع لنقص في الموضوعية أو لافتقار للشجاعة. لكن الحياة تستوجب الاعتياد على اهتزاز المسلمات ونقد المقدسات، لأن كم التضليل الذي نعيشه هو الأحرى بخلق الخوف. إن اختلاف المرأة عن الرجل من ناحية بيولوجية هو معطى علمي لا يمكن نفيه. لكن طريقة تعامل الإنسان مع محيطه وتوزيع الأدوار وفق النمط القديم ليست الطريقة المثلى للوجود. وإلا ما سعى الإنسان إلى التطور الذي يفخر به الآن ويعتبره دليل ارتقاء على المنزلة الحيوانية.  في نفس السياق، عدم الإقرار بضرورة أن تتمتع المرأة بنفس حقوق وامتيازات الرجل ينافي التعايش بين الجنسين في إطار علاقة سوية صحية ومتكافئة. كخلاصة يمكن أن نقول بكل موضوعية إن الإنسان هو حيوان مغرور لا يريد / لم يستطع الارتقاء من حيوانيته لكنه يواصل تضليل نفسه بغطرسة وعجرفة. لنعود فنؤكد أن النظام كان وسيبقى ذكوريا إلى وقت ليس بالقصير.

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

أميرة حجلاوي
ناشطة تونسية سياسية
ناشطة سياسية يسارية
تحميل المزيد