يوم السبت الماضي، أُسدل الستار على قصة صعود المنتج الفنيِّ المقرب من جهاز المخابرات العامة، والذي تحكم في عدد من القلاع الإعلامية على مدار الأعوام الثلاثة الأخيرة، "سنيرچي" و"المتحدة" و"إعلام المصريين"، السيد تامر مرسي في مؤتمر صحافي كان ظاهره الحديث عن إنجازات هذا التحالف المؤسسيّ خلال الأعوام الأخيرة، وباطنه الكشف عن خسائر مالية تكاد تناهز 400 مليون جنيه.
القصة باختصار، أنّ المؤسسات السيادية اعتادت خلال الأعوام الأخيرة إحداث تغييرات مستمرة في ملفّ "الميديا" والذي يشمل كلّ ما قد يسهم في التأثير على وعي المصريين، إرضاءً للرئيس، الذي رصد أنَّ الإعلام كان فاعلاً رئيساً في كابوسهِ السياسيِّ والاجتماعيِّ الذي مرَّ عليه نحو عقد، ثورة يناير/كانون الثاني 2011، وأنه لا يكفي فقط تحييد هذه الصناعة، وإنما يجب الهيمنة عليها، ضمن مساعي الهيمنة على معظم القطاعات المادية والرمزية في المجتمع، والتي تعدّ من أبرز ملامح دولة الثالث من يوليو/تموز 2013. هذا من ناحية.
من ناحية أخرى، كانت الإطاحة بتامر مرسي تحديداً هذه المرة دون غيره، لعدة أسباب، بالرغم من إعجاب الرئيس بمجمل أعماله، على رأسها سوء استغلاله لنفوذهِ في الفترة الأخيرة، متغافلاً أنه حتى لو كان نجل ضابط سابق، فإنه ليس من الجيش أولاً وإنما مجرد "واجهة" مدنية لتقليل حدة أثر فكرة أن يكون "العسكر" مسيطرين على هذه المجالات التي تدخل ضمن تصنيف: الاتصال والترفيه، وأنه حتى لو كان ضابطاً رفيعاً، وهو لم يكن، فإنّ ذلك لا يعدّ كافياً لحمايته حال وصل الغضب عليه مداه، كما حدث مع ضباط رفيعينَ سابقين، تحدوا السلطة الحالية أو سبَّبُوا لها المشاكل بسوء إدارتهم.
سبّبَ تزايد نفوذ مُرسي الكثير من المشاكل في الوسط الدراميِّ، طالت أسماء وفنانين بارزين خلال العامين الأخيرين على الأقلّ، وإلى جانب إهدارهِ الكثير من الأموال بسفهٍ ربما يكون غير مسبوق، وهي تهمةٌ يتحرَّزُ منها النظام الحالي، بل ويحاول الترويج للفكرة المقابلة منها (يمكن رصد تعمد النظام الكشف عن القبض على قيادات إدارية كبرى في السنوات الأخيرة، في الأحياء والمحافظات والهيئات الحكومية، متلبسين برشاوى مليونية، وإعلان ذلك على الملأ، للإيحاء بأنّ الدولة تضرب بيد من حديد على الفاسدين، وهو ما يلقى استحساناً جماهيرياً بالفعل).
إلى جانب ذلك، فإنه، كما بات معلوماً وكما رصدت تحقيقات استقصائية مؤخراً لهذه الأزمة، فقد ارتكب مرسي أخطاء فنية فادحة في مسلسل "نسل الأغراب" لم ينجح في رميها على المخرج محمد سامي خلال جلسات التحقيق التي استمرت يومين منتصف الشهر الماضي مايو/أيار مع جهات سيادية مسؤولة عن هذا الملفّ.
بطبيعة الحال، فإنَّ تغييراً كبيراً كهذا شمل أيضاً ذراعيّ مُرسي في الإدارة، حسام شوقي ويسري الفخراني، لتحلّ محلها أسماء جديدة، لم يعلن عنها بعد رسمياً ولكنّ مصادر كشفت أنها تتسم بالطابع التقنيِّ، والاقتصاديِّ، والبعد عن الصدامية؛ سيؤثر على طبيعة التحالفات ومستقبل هذه الصناعة خلال الأعوام القادمة، وهو ما نحاول أن نرصدهُ بإيجاز مكثف في هذا المقال.
السعودية.. الرابح الأكبر
الرابحونَ من هذا التغيير الأخير كُثر أو بالأحرى ليسوا قليلين، ولكنّ أبرز الرابحين هم الأقرب من دوائر النفوذ السعودية، وعلى رأسهم مؤسسة "إمّ بي سي". لم يكن عداء تامر مُرسي لهذه المؤسسة مبدئياً قطّ، بمعنى أنه لم يكن ضدّ الهيمنة السُّعودية على القوة الناعمة المصرية لا سمح الله.
ولكنّ سياساته ونفوذه تقاطعا مع إلحاق الضرر بهذه المؤسسة، فبعد أن تمرد عليه النجم عادل إمام وحاول أن يستعين بنجلهِ محمد في الإنتاج الفنيِّ بدلاً من شركة "سنيرچي" رغم النجاحات الكبيرة التي قاما بها معاً، فإنّ مُرسي عرقل، على سبيل المثال، أكثر من مرة، مستخدماً نفوذه في المجال الاجتماعي والسياسي والفني المصري تعاوناً درامياً بين الزعيم وبين المؤسسة السعودية، ولعل أبرز الأمثلة على ذلك مسلسل "ڤلانتنينو" التي تأخر عرضه كثيراً بسبب العراقيل التي وضعها مُرسي أمام كلّ من إمام والشبكة السعودية.
قبل ذلك، كانت الصفعة التي أشيع أن مرسي وجهها إلى نفس المؤسسة عندما نجح في كسر عقد النجم الأول للدراما المصرية خلال الأعوام الأخيرة، محمد رمضان، مع إم بي سي، باستغلال ما يقال إنها "ثغرة قانونية" في هذا العقد تتيح لرمضان التملص من الشرط الجزائي، إذا حال مانع قهري بينه وبين الانخراط في التعاون الفنيِّ مع المؤسسة، فاختلقَ مُرسي قصة دخول رمضان إلى التجنيد بعد سنوات من التهرب والتأجيل، ليقوم باستقطابهِ للعمل مع "سنيرچي" مستفيداً من نجاحه الكبير في الوصول إلى شرائح كبيرة من الجمهور؛ فالعمل الذي يشارك فيه رمضان بطلاً ينجح بغضّ النظر عن مضمونه، وبالفعل أنتج معه عدداً من الأعمال الدرامية الناجحة بعد انتهاء علاقته بالمؤسسة السعودية، كان آخرها مسلسل "موسى" رمضان الأخير.
بالرغم من إنكاره، إذ عودنا تُركي الشيخ على تلك الأساليب في إدارة معاركه، فإنه فيما يبدو لن تقتصر الفائدة من رحيل مرسي عن المشهد الدرامي على "إم بي سي" التي كان ينظر إليها مؤسس "سنيرچي" على أنها "منافس" ينبغي تحييدهُ؛ إذ ستشهد الفترة القادمة تعاوناً كبيراً بين هيئة الترفيه السعودية ومؤسسة المتحدة في مجال الإنتاج الدراميّ والفنيّ، يمكن القول إنها قد ترقى إلى نوع من "الهيمنة" السعودية على القوة الناعمة المصرية.
تبلور ذلك الاستقراء من خلال حدثين: الأول هو زيارة رئيس هيئة الترفيه السعودية المستشار تركي الشيخ رئيس هيئة الترفيه السعودية إلى مصر، ملتقياً بالرئيس المصري عبد الفتاح السيسي ومدير المخابرات العامة عباس كامل رأساً، ناقلاً إليهم رسالةً من كل من ملك السعودية ونجله ولي العهد محمد بن سلمان بخصوص دفع العلاقات "الاستراتيجية" بين البلدين يوم الـ25 من مايو/أيار الماضي، وما تلى ذلك من إفصاح عمرو أديب، مقدم برنامج "التوك شو" الأهم على القناة السعودية (إم بي سي مصر) والمقرَّبِ من الشيخ عن خطة خمسية للتعاون الثنائي بين البلدين ستشهد إنتاج عشرات المسلسلات والمسرحيات والحفلات الغنائية، ضمن جهود المملكة لمواجهة تاريخ التحفظ الديني والاجتماعي القديم بالبلاد، وتصالُح النظام المصري مع كونه رديفاً لأصحاب "الرزّ" في هذه المجالات.
محمد السعدي.. الرابح الجديد
إلى جانب السعودية، يمكن القول إنّ أبرز الرابحين من هذا التغيير، هو منافس تامر مرسي القديم على مجال الإعلانات، محمد السعدي، الذي نجح في تقديم أوراق اعتماده إلى النظام من خلال نجاحه في تنظيم أنشطة الرئيس السيسي وموكب المومياوات الملكية الذي أبهر العالم مؤخراً، بالإضافة إلى هدوء الوضع في مجال الإنتاج الدراميّ المصريّ نسبياً بالمقارنة مع فترة مرسي، إذ لن يكون النجم الأول للتشكيل الجديد المقترح، محمد السعدي، على رأس الإدارة كما كان مرسي، بما يضمن تقاسم الصلاحيات والنفوذ، وبالأخصّ عند وجوده مع شخصيات أخرى ضالعةٍ في نفس المجال، مثل كامل أبوعلي، كما أنّ الإدارة الجديدة، على الأرجح، سوف تراعي عدم الوقوع في نفس أخطاء مرسي، فضلاً عن عدم اتسامها بنفس الحدة والجموح أصلاً.
أكبر الخاسرين: النظام والإمارات
على الأرجح، فإنَّ تعزيز النفوذ السعوديِّ في مصر في مجال "الإعلام-الترفيه" مرتبط بجهود النظام مؤخراً في تحجيم الدور الإماراتي داخل البلاد، بعد توتر العلاقات بين البلدين على خلفية إصرار أبوظبي على العمل في الإقليم ضاربةً عُرضَ الحائط بالثوابت الاستراتيجية للقاهرة.
العلاقة بين تعزيز النفوذ السعودي في مصر على حساب النفوذ الإماراتي في هذا المجال ليست اعتباطيَّةً؛ فمن جهة، تمتلك الرياض رؤيةً أكبر من أبوظبي في هذه المنطقة، لا سيما فيما يتعلق بالترفيه، ومن جهة أخرى، فقد تزامن التنسيق المصريُّ السعوديُّ في هذا الشأن مع الإطاحة برجل الإمارات في الصحافة المصرية خالد صلاح، واختيار شخصية أخرى تدعى أكرم القصاص لتولي مسؤولية إدارة تحرير "اليوم السابع".
بالنسبة للإمارات وفقاً لمصادر متواترة، فإن خالد صلاح لم يكن مجرد ذراع في القاهرة، وقد جاءت هذه الخطوة أيضاً بعد قرار سيادي مصري، نشر "عربي بوست" تقريراً مفصلاً عنها يخصّ تحجيم مراكز البحث والدراسات الإماراتية في مصر.
في نفس المرتبة من الخسارة تقريباً، يأتي النظام نفسه، فقد اضطرّ النظام لصياغة حركة التغيير الإعلامية الأخيرة، على خلفية ملفات فساد وتبديد أموال تسببت فيها الشركة المتحدة وروافدُها بعد موسم درامي تركزت مضامينه على مديح نزاهة وكفاءة "رجال الظلّ" في النظام، ولم يخفف من وقع هذه "الفضيحة" إلا وقوعها متزامنةً مع الدعاية السياسية لدور النظام في احتواء التصعيد بين الفصائل المسلحة في قطاع غزة ودولة الاحتلال وعودة سرديّاتِ استعادة دور مصر الإقليميّ والعمل الدبلوماسي الناجح على الجبهات المتعددة.
بعد ذلك يأتي تامر مرسي نفسه. لم يُعتقلْ مرسي على خلفية تورطه في ملفات فساد كما كان الحال مع نائبه ياسر سليم الذي زج به في السجن منذ عامين بنفس التهمة، وإنما مُنح "خروجاً آمناً" ببقائه شرفياً ضمن منظومة عمل الشركة المتحدة؛ ومع ذلك، فقد خسر مرسي مشروعه الدراميّ للترويج للنظام من خلال عدة مسلسلات مفتوحة الميزانية تقريباً، تحظى بكل الصلاحيات التنظيمية وحرية الوصول إلى المعلومات المطلوبة من الجهات السيادية، وحتى لو استمرّ المشروع باستكمال هذا النمط من المسلسلات، فإنه على الأرجح، لن يكون مقروناً بتامر مرسي، الذي بات اسمه صُنواً للفساد والفشل في تحقيق عوائد مادية من وراء الاستثمارات الهائلة التي وضعت في أعماله مؤخراً.
فنيا، فإنّ "رجال مُرسي" مثل محمد رمضان وأحمد العوضي وأحمد صلاح حسني وأمير كرارة وغيرهم، لن يتمتعوا بالحماية المطلقة، والأجور الباهظة، التي كان يكفلها لهم مرسي في السابق، وهو أمرٌ محمود، إذا ما أخذنا في الاعتبار أهمية الحفاظ على فرص متساوية لجميع الفنانين في الظهور والعمل قدر الإمكان، وهو منهج يُقال إنّ "محمد السعدي" تحديداً يتبناه بشكل شخصيّ، وسيظهر خلال الأعوام الدرامية القادمة.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.