ما بقي من خلق آدم حوَّله الله إلى نخلة.. حكاية النخلة والمجنون!

عربي بوست
تم النشر: 2021/06/04 الساعة 10:39 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2021/06/04 الساعة 12:05 بتوقيت غرينتش
iStock

لأنني مشغول الآن بالمسكوكات وتاريخ الفلوس، كنت أتأمل فلساً ضُرب بمدينة طبرية بشمال فلسطين في عهد عبدالملك بن مروان، ففوجئت أن ظهر الفلس المكتوب عليه "محمد رسول الله" قد نقش عليه على يمين الكتابة "نخلة". الحقيقة أنا انفعلت جداً لرؤية هذه النخلة التي رسمت سنة 77هـ تقريباً، أي أنها قد تكون أول عمل تشكيلي أنتجه العرب بعد الإسلام!

وبعد أن فاضت مشاعري ثم آضت قلت: لا عجب، بل هذا هو الطبيعي بعد تعريب النقود. فمن الطبيعي أن العربي المسلم عندما يلخص نفسه بكلمة أن يذكر الشهادة لأنهم بها سادوا، فإذا رمز لنفسه بشيء فمن الطبيعي أيضاً أن يرسم نخلة. وأظن أن انفعالي يأتي فقط من أنني لم أتوقع هذه المفاجأة المدهشة.

والنخلة بالنسبة للعربي كائن مبجل مبارك، وهي في القرآن ترمز إلى عظمة خلق الله. وفي الحديث الشجرة الوحيدة التي تشبه المسلم. ولو رجعنا قليلاً سنجد أن فكرة تبجيل النخلة سابقة على الإسلام، فالنخلة كما في الأسطورة العربية القديمة هي خالة أو عمة! ويقال في تفسير ذلك إن الله سبحانه عندما خلق آدم بقي من طينته بقية فأخذها سبحانه وصنع منها نخلة. وفي الشعر الجاهلي ما يدل أيضاً على رمزية النخلة بل وعروبتها.

على سبيل المثال عندما كان أمرؤ القيس عائداً من بيزنطة إلى جزيرة العرب، اشتدت به علته المزمنة، ولم يكن سُمم كما يزعم أغلب الرواة، ولكنه فيما يبدو كان يعاني من قرحة مميتة بسبب إدمانه للخمور. وربما لهذا سُمي بذي القروح! لابد أن أكتب مرة في هذا الموضوع! المهم أنه وهو في وسط الأناضول اشتد به الألم فلما رأى نخلة وحيدة على الطريق نزل عن راحلته إلى جوارها واستند إليها أو اُسند، فلما آبت إليه نفسه وعرف أنه ميت قال يخاطب النخلة:

أجـارَتَنــا إنّـا غَرِيبَــانِ هَـاهُــنَا.. وكُلُّ غَرِيـبٍ للغَـريـبِ نَسِيـبُ

فـإنْ تَصِلِينَـا، فَالقَـرَابَةُ بَيْنَنـا.. وإنْ تَصْرِمِينَـا فالغَريـبُ غريـبُ

أجارَتَنَـا مَا فَـاتَ لَيْـسَ يَـؤوبُ.. ومَا هُـوَ آتٍ فِي الزَّمـانِ قَرِيـبُ

ولَيْسَ غريباً مَن تَنَاءَتْ دِيَارُهُ.. ولَكنَّ مَنْ وارَى التُّـرَاب غَريبُ

ولا تصدق أنه كان يخاطب بكل هذا الحزن والألم أميرة بيزنطية مقبورة هناك، إذ ما قرابتها هنا؟! إنها ولا ريب النخلة التي استند إليها ومات بجوارها بعد أن ترك لنا هذا الشعر المبكي مع رفيقه في الرحلة الشاعر المغرق في القدم عمرو بن قميئة.

وأذكر عندما كنت أدرس في بامبرغ بألمانيا أنني اكتشفت شجرة توت على نُهير قرب مبنى "الكونسرت هال"، فكنت أزورها كل فترة وأجلس قربها على النهير حتى في الشهور التي لم تكن تطرح فيها. وبعد أن تزوجت أخذت زوجتي مرة لزيارة الشجرة وقد طرحت وطاب طرحها فلما رأتني قد سكرت بتوتها وبدوت لها بحالة ليست معهودة لها ظنتي قد جننت! فتصور ماذا كان يمكن أن يصيبني لو أنني اكتشفت بجوارها نخلة حياني أو سيوي أو حتى أمْهات؟! 

إذ ربما جننت حال المجنون بليلى، أو ربما قلت شعراً مثل هذا الرجل الهمام عبدالرحمن الداخل، الذي سيطر على الأندلس وهو في الثانية والعشرين من عمره، ورغم أن الملك جاء بعد انقطاع فإنه كان مريضاً بالحنين إلى الشام بلاد النخل، كما قال، ولأنه لا يستطيع العودة بدأ في صناعة "شام أندلسية"؛ حيث بدأ تنظيم مدن الأندلس على نمط تنظيم دمشق، شوارعها وحواريها وحتى منازلها، لذا تجد هذا التشابه الكبير بين مدن الأندلس ودمشق. وكان أحياناً يطلق الأسماء الشامية نفسها على مدن الأندلس، ولذا أطلق اسم "الرصافة" على الحي القرطبي الذي يقع على النهر الكبير ونظمه بحيث يبدو مثل "الرصافة" الشامية التي طورها جده هشام بن عبدالملك على الفرات.

وكان الداخل نفسه قبل أن (يدخل) الأندلس قد نجا من مطاردة العباسيين عند هذه الرصافة، وكان في الثامنة عشرة من عمره. ويبدو أن هذا الحنين أنطقه بالشعر أحياناً، وهو أمر نادر بين الأمويين، لأنهم -مع الاعتذار للأبيوردي- كانوا ناس بتوع تجارة وسياسة وحروب لا شعراء بتوع شعر وفنون. ويبدو أن القريحة كانت تواتيه في مثل هذا اللون الشعري الحزين، وأذكر أنه عبر عن حنينه هذا مرة فقال:

أيها الراكب الميمِّمُ أرضي.. أقرِ مني بعضَ السلام لبعضي

إن جسمي كما علمتَ بأرض.. وفؤادي ومالكيه بأرض

قضى الله بالفراق علينا.. فعسى باجتماعنا سوف يقضي

ولكن يبدو أن أول شعر قاله -هكذا أظن أو أحب- كان بعد رؤيته لنخلة صغيرة زرعوها له في "الرصافة"، فما إن رآها حتى فاض عطفاً عليها ولم يتمالك أن قال:

تَبَدَّت لَنَا وَسْطَ الرُّصافَةِ نَخْـلةٌ.. تَنَـاءت بأرضِ الغَـرْبِ عن بَلَدِ النَّخْـلِ

فقلتُ شبيهي في التغرُّب والنوى.. وطولِ الـتَّنائي عن بَنِيَّ وعن أهلي

نشأتِ بأرض أنتِ فيهـا غريبـةٌ.. فمثـلُكِ في الإقصـاءِ والمُنْتــأى مثلي

كما ترى فهذا هو المعنى نفسه الذي نطق به امرؤ القيس من قبل؛ فالنخلة إما عربية متغربة أو هي رمز للغربة والحنين إلى بلاد النخل. وظني أن هذا بالضبط حال أي مصري أو عربي يرى نخلة هنا في الغرب، مباشرة سيتذكر أمه وأهله، فكأن النخلة بالفعل عمة أو خالة. وهذا الذي رسمها على هذا الفلس الطبري رغم أن أحداً لا يعرفه الآن يمثل كل هذا الإرث وهذه البيئة التي تُجل النخل وتفخر به حتى ترسمه دون سواه على الفلوس. ولاحظ أن هذا الفلس مسكوك في طبرية المغدورة، وربما من نقشها كان يعيش في بيسان وما أدراك ما نخل بيسان! بل وأين نحن من نخل بيسان الذي سيطر عليه المستوطنون وملأوا العالم من تمره دون أن يجرؤوا على الإشارة لسرقتهم إياه!

المهم حتى لا أستطرد أن نقش النخلة، الذي يعطيك فكرة عن البيئة البصرية لمن سك هذا الفلس، هو ما يجعل صاحبه، رغم بعدي الزمان والمكان، قريباً من روحي، وقادراً على مس مشاعري لدرجة الكتابة عنه.

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

عبد السلام حيدر
أستاذ جامعي متخصص في التاريخ
أستاذ جامعي متخصص في التاريخ
تحميل المزيد