لماذا قامت حروب الفرس مع اليونان؟

عربي بوست
تم النشر: 2021/06/03 الساعة 14:45 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2021/06/03 الساعة 14:49 بتوقيت غرينتش
iStock

خلال القرن الخامس قبل الميلاد كانت الإمبراطورية الفارسية "الإخمينية" القوة العظمى في العالم، واتسعت لتشمل مساحات واسعة في آسيا وإفريقيا وأوروبا، حيث ضمت وسط آسيا وأجزاء من القوقاز والهند والبلقان ومصر والسودان وليبيا، ومناطق على ساحل اليونان ومقدونيا.

لكن الفرس تجاهلوا ما تبقى من اليونان، وبالأخص أثينا، كونها مناطق فقيرة ولا فائدة حقيقية من احتلالها، حتى غيّر خطأ شخصي كل ذلك، وحوّل أنظار الفرس إلى أثينا وأوروبا، وهدد بتغيير التاريخ تماماً.

 طموح في غير محله

بسبب اتساع الإمبراطورية الفارسية، ووجود مناطق عديدة بعيدة تماماً عن الحكومة المركزية، خرج الفرس بنظام حكم يقوم على إنشاء عدد من العواصم حول الإمبراطورية، تكون مراكز سلطة لهم، وفي الوقت نفسه يتم تعيين حاكم أو طاغية على المدن المختلفة، يحكمها باسم الإمبراطور، وأحياناً كان يتم السماح لملوك وأمراء المدن المحتلة بالاستمرار في مناصبهم، بشرط الخضوع للإمبراطور، لذلك كان يسمى حاكم الفرس بـ"ملك الملوك".

أحد هؤلاء الحكام ويدعى "اريستاجوراس Aristagoras" كان حاكم مدينة "ميليتوس Miletus" في اليونان، مدينة صغيرة وغير مهمة، لكن طموحه كان أبعد من مجرد حاكم لمقاطعة بعيدة ولا دور حقيقياً له، فطمح في حكم منطقة أفضل وأغنى، او حتى منصب أقرب للسلطة ومجلس الإمبراطور، وارتكب خطأ كلفه كل شيء، وكاد يقضي على الحضارة اليونانية والعالم الغربي بأكمله.

حاول الطاغية استغلال أحد التمردات لمصلحته الشخصية، حيث تمردت جزيرة "ناكسوس Naxos" اليونانية ضد الحكم الفارسي، وظنوا أنهم بأمان بسبب بعدهم عن الحكومة، وأعلنوا استقلالهم وأعدموا حاكمهم المعين، فرأي الطاغية فرصته في الظهور وخدمة المملكة في التمرد، أو على الأقل يضم تلك الجزيرة لحكمه.

 انقلب السحر على الساحر

تمكن الحاكم من جمع جيش مناسب، ولكن ناكسوس كانت جزيرة محاطة بالمياه من جميع الجهات، ولم يملك أي سفن ينقل بها رجاله إلى هناك، لحل هذه المشكلة عقد صفقة للحصول على مساعدة من الأسطول الذي يسيطر عليه حاكم مدينة "ليديا Lydia" الأكبر والأكثر ثراءً، والذي كان أيضاً شقيق الإمبراطور "داريوس الأول"، وبهذا ضمن أن خبر انتصاره سيصل إلى مجلس الإمبراطور لا محالة، ثم تعاقد الطاغية مع أحد كبار الأدميرالات بتلك الفترة لقيادة الأسطول، والذي كان قائداً متمرساً وخبيراً.

حتى الآن جرى كل شيء طبقاً للخطة بلا مشاكل، حتى انفعل الحاكم في إحدى المرات على الأدميرال، وأهانه علناً، فقرر الأدميرال الانتقام، وحذر متمردي ناكسوس أن الغزو قادم، فاستعدت الجزيرة وتسلحت وأعدت دفاعاتها، وخزنوا إمدادات من الطعام، وبحلول الوقت الذي وصلت فيه سفن الحاكم كان سكان الجزيرة مستعدين جيداً للتعامل مع الغزو، وبعد أربعة أشهر من الإحباط والهزيمة، أُجبر الحاكم وجيشه على التراجع إلى الوراء، فاشلاً في سحق التمرد.

ما وضعه في مشكلة خطيرة جداً، لأنه في مقابل استخدام أسطوله كان قد وعد شقيق الإمبراطور بجزء كبير من الغنائم من ناكسوس، كما أنه وافق على استخدام الجيش نفسه للمساعدة في فتح مدينة لصالح لحاكم ليديا، لكن بعد أن فشل في التغلب على ناكسوس لم يكن في وضع يسمح له بغزو أي مدينة، ولم تكن لديه غنيمة ليقسمها، وكون أنه قد قطع هذه الوعود لشقيق الإمبراطور، وليس مجرد زعيم محلي آخر كانت نتيجة فشله العسكري -على الأقل- المنفى أو على الأرجح الإعدام.

تمرد ايونيا

أدرك الحاكم أنه هالك لا محالة، وحاول إنقاذ نفسه بأن تمرد هو الآخر، حيث كان قادراً بشكل ما على إقناع عدد من المستعمرات اليونانية التي حكمتها بلاد فارس بالتمرد، وقاد التمرد بنفسه، وسارع بالبحث عن حلفاء يساعدونه، عارضاً الذهب وحقوق التجارة على كل مدن اليونان، وافقت مدينتا أثينا على مساعدته، ودعم التمرد، وأرسلوا الجنود والعتاد.

استغرق الأمر وقتاً لجمع الجيش ومزيداً من الوقت للسير في عبر نصف الإمبراطورية، لوصول الجيش الفارسي للتمرد، ما استغله الحاكم والمتمردون وهاجموا شقيق الإمبراطور في ليديا، وأحرقوا عاصمتها "سارديس Sardis"، ولم يستطع أحد الوقوف في طريقهم.

حتى وصل الجيش الفارسي، وتمكن من سحق التمرد، وحتى القبض على الحاكم وإعدامه، فقط نجح مقاتلو أثينا في الهروب بعد أن أسرعوا بسفنهم وهجروا التمرد، لكن الفرس لم ينسوا أبداً مساندة أثينا للتمرد ضدهم، وقرروا معاقبة أهم المدن اليونانية.

 الغزو الفارسي الأول

بحلول 492 قبل الميلاد، انطلق الغزو الفارسي الأول لليونان، بالهجوم الأول، الذي تمكن من إعادة إخضاع مقدونيا والمناطق المجاورة لها، وبدأ الغزو يؤتي ثماره، لكنه توقف بشكل مفاجئ، بعد تحطم الأسطول الفارسي في عاصفة شديدة، وبالعام التالي أرسل داريوس الأول رسلاً لكل المدن اليونانية، مطالباً بخضوعهم وانضمامهم لسلطته، وافقت معظم المدن من الفزع والخوف، ما عدا أثينا وسبارطا، وقامتا بإعدام الرسل، فكان لا مفر من القضاء عليهما.

انطلق الجيش الثاني في العام 490 قبل الميلاد، وحط في جزيرة ناكسوس، أصل التمرد، وأخضعها ثم دمرها، وتناوب على احتلال أو تدمير الجزر المحيطة بالساحل اليوناني حتى وصل إلى مدينة إريتريا، التي ساعدت تمرد الحاكم مع أثينا، وبعد حصار قصير دخلها وحرقها بالكامل، وأدخل مواطنيها في العبودية.

في الطريق إلى أثينا وصل الفرس إلى مدينة "ماراثون"، على بعد 40 كم من أثينا تقريباً، بعد سقوط كل المدن التي آثرت الدفاع بدلاً من التحصن داخل الجدران، خرج جيش أثينا الصغير لمواجهة سيل الإمبراطورية الفارسية، وفي الوقت نفسه أرسلوا إلى سبارطا طالبين المساعدة.

لكن تلك الفترة كانت أحد الأعياد الدينية في سبارطا، ومحرم عليهم الحرب خلال العيد، ويجب الانتظار على الأقل 10 أيام لوصول جيش سبارطا، فحاولت أثينا تعطيل بدء الحرب قدر المستطاع والمماطلة لـ5 أيام، بعدها لأسباب غير معلومة قرروا مهاجمة الفرس بمساعدة قوة صغيرة من مدنية بلاتيا.

وبمعجزة حقيقية، تمكن جيش أثينا الصغير من التغلب على الأعداد المهولة للفرس، عن طريق مهاجمة الأطراف وإجبارهم على التزاحم في منتصف الجيش، فانكسر تنظيم الفرس وانتشر الذعر والفوضى، وبدأ الجنود في الهرب وهجر المعركة، وبحسب هيرودوت فقد سقط ما يزيد عن 6400 من الفرس، مقابل أقل من 200 فقط من اليونان!

 لكن بعد المعركة أدرك اليونانيون أن أسطول الفرس فد انطلق لمهاجمة أثينا غير الحصينة، وسارعوا باتجاه المدينة، ووصلوا في الوقت المناسب، ومنعوا الفرس من النزول على اليابسة، حينها استدار الفرس وعادوا أدراجهم، معلنين رسمياً انتصار اليونان.

في اليوم التالي، وصل جيش سبارطا أخيراً، بعد أن قطعوا 220 كم في ثلاثة أيام فقط، لكن المعركة كانت قد انتهت بالفعل، وسُجلت في التاريخ باسم "معركة ماراثون"، واحدة من أكثر المعارك ملحمية على الإطلاق.

بالنسبة لليونان، كانت المعركة انتصاراً هائلاً، فهذه هي المرة الأولى التي يُهزم فيها الفرس، وبالأخص أمام اليونانيين، وأظهروا أن الفرس ليسوا منيعين، وقابلون للهزيمة، وأن المقاومة كانت ممكنة.

بالنسبة للفرس كانت الغزوة تعد ناجحة إلى حد كبير؛ فقد أضيفت مناطق جديدة إلى إمبراطوريتهم وعاقبوا التمرد، وهزيمة ماراثون كانت انتكاسة طفيفة، ويمكنهم معاودة الكرة في أي وقت، لكن بالنسبة لداريوس كانت الهزيمة شخصية، ورغبة الانتقام كانت مشتعلة داخله.

ما بعد الغزو

رغم الهزيمة كان داريوس لا يزال عازماً تماماً على غزو اليونان، لتأمين الجزء الغربي من إمبراطوريته، ولأن أثينا ظلت بلا عقاب لدورها في الثورة الأيونية، ولم تتم معاقبة كل من أثينا وسبارطا بسبب معاملتهما للسفراء الفارسيين، ما قد يشجع مدناً أخرى على فعل المثل.

لذلك بدأ داريوس في تكوين جيش جديد ضخم أراد به إخضاع اليونان بالكامل؛ لكن في عام 486 قبل الميلاد، ثار المصريون ضد الفرس وانطلقوا في تمرد خطير، ما أدى إلى تأجيل أي غزو الى اليونان إلى أجل غير مسمى.

ثم مات داريوس بينما كان يستعد للسير إلى مصر، وانتقل عرش بلاد فارس إلى ابنه "خشايارشا الأول"، الذي سحق الثورة المصرية، وسرعان ما استأنف الاستعدادات لغزو اليونان، كانت هذه الحملة جاهزة أخيراً بحلول عام 480 قبل الميلاد، وبذلك بدأ الغزو الفارسي الثاني لليونان تحت قيادة "خشايارشا" نفسه، الذي كانت ملحمة سبارطا بعد ذلك أشهر معاركه.

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

عمرو عدوي
مدون مصري مهتم بالتاريخ
مدون مصري مهتم بالتاريخ الأوروبي والعصور الوسطى، والاساطير القديمة والميثولوجي
تحميل المزيد