في ذكرى وفاة محمد عبدالعزيز الخامسة.. من قيادي مغمور إلى زعيم طبعت شخصيته مسار تجربة البوليساريو

تم النشر: 2021/06/02 الساعة 13:15 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2021/06/03 الساعة 07:30 بتوقيت غرينتش

لم يكن زعيم الجبهة الراحل محمد عبدالعزيز ليسعد بمقارنته بسلفه مؤسس البوليساريو الولي مصطفى السيد، فقد كان الأخير زعيماً سياسياً وشخصية كاريزماتية بامتياز، أتعب خلفه بتفوقه على أقرانه وبتكوينه الأكاديمي ونشاطه السياسي المنقطع النظير، فضلاً عن الإجماع الذي حقق لدى مناضلي الجبهة، ليتوج مساره ببذله لروحه فداء للقضية التي نظّر لها وآمن بها، رغم هول المؤامرات التي تعرض لها وحجم خيانات الرفاق التي عجزت غير ما مرة عن زحزحته عن موقع زعامة الجبهة، قبل أن يتوفاه الأجل على إثر حادثة مصرعه الغامض في هجوم الجبهة على نواكشوط يونيو/حزيران 1976، والتي بقيت لغزاً عصياً على الفهم، شأنها شأن كل مناحي شخصيته الفذة.

أما محمد عبدالعزيز فلم يكن أول الأمر سوى قيادي مغمور من قيادات الصف الثاني في البوليساريو، ساقته الصدف إلى تبوؤ زعامة الجبهة، حين تم استدعاؤه من طرف قطاع جيش الجزائري بتيندوف لاجتياز الخدمة العسكرية أوائل سنة 1974، مباشرة بعد انتقال معسكرات الجبهة الخلفية إلى منطقة تيندوف بجنوب غرب الجزائر، بمبرر أصوله الجزائرية، قبل أن يتم إرساله على رأس أول دفعة للمتدربين في المدارس العسكرية الجزائرية، ويتم تأطيره لدى أجهزتها الأمنية، بعد أن خاض تجربة الحركة الجنينية بطنطان قبل تأسيس البوليساريو، وشارك في مؤتمر الجبهة التأسيسي بالزويرات، ليعين لاحقاً مسؤولاً على مكتبها بتيندوف نظراً لخلفيته القبلية الممتدة فيها.

لم يجد محمد عبدالعزيز طريق الزعامة مفروشاً بالورود، بل واجه تنظيماً يعيش على وقع الخلافات والانقسامات السياسية والتجاذبات القبلية والمناطقية، فضلاً عن الاستقطابات الإقليمية والدولية، لكنه نجح في اللعب على المتناقضات التي تزخر بها الجبهة، رغم الفراغ الكبير الذي خلفه رحيل الولي مصطفى السيد، مستغلاً صراعات العناصر القيادية الرئيسية فيما بينها، حيث وظف العصبيات العشائرية لصالحه، ليضرب المجموعات القيادية بعضها ببعض، كما أفسح المجال للمجموعة القيادية المحسوبة عليه لتصول وتجول في أجهزة البوليساريو، مستخدماً إياها كأداة قمعية لتطويع المخالفين وضبط جبهتها الداخلية.

لقد وظف الراحل محمد عبدالعزيز لأجل إحكام هيمنته على قرار البوليساريو خلفيته القبلية التي أضفت عليه نوعاً من المشروعية التقليدية، كونه ينتمي لمكون ركيبات الشرق، المكون الأكثر انتشاراً في مخيمات تيندوف، كما عمل على توزيع المواقع القيادية على مختلف المكونات القبلية الأخرى، خاصة تلك المكونات التي تمردت على البوليساريو في أحداث 1988، دون أن يسمح ببروز الشخصيات القيادية الكاريزماتية التي من الممكن أن تنافسه على زعامة الجبهة، والتي من بينها عديد القيادات التاريخية التي رضخ بعضها لزعامته، كما غادر بعضها الآخر البوليساريو أو اختفى في غمرة التغييرات التي يجريها بمناسبة وبدونها.

ورغم حجم الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان الصحراوي التي ارتكبت في أثناء زعامته للجبهة سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، والتي تكرس مسؤوليته السياسية والأخلاقية عنها، إلا أنه بقي بعيداً كل البعد عن التورط المباشر فيها، حيث لم يرد اسمه في أي من شهادات الضحايا كممارس أو مشرف مباشر على التعذيب والاختطافات والاغتيالات التي شهدتها المخيمات.

بل على العكس من ذلك، فقد حرص على التعبير عن رفضه وامتعاضه إزاء تلك الانتهاكات في العديد من المناسبات الرسمية، بما في ذلك تلك المحطات السياسية التي شكلت منعطفات هامة في تاريخ البوليساريو الراهن، كمؤتمريها العامين الثامن والتاسع المنعقدين سنتي 1989 و1991، حيث أعلن تبرؤه من المتورطين فيها، ولكن دون أن يجرؤ على اتخاذ أي إجراء ملموس لمعالجة تبعات الجرائم التي ارتكبت باسم البوليساريو وتحت سلطته، في حين عمل على حماية نفس الجلادين المحسوبين عليه وتكريمهم من خلال تبوّئهم المواقع القيادية، رافضاً الرضوخ للمطالب الحقوقية بالكشف عن حقيقة تلك الانتهاكات وعزل المشتبه في تورطهم فيها، فضلاً عن تلكُّئه ومماطلته إزاء الاعتذار للضحايا وجبر الضرر الذي لحقهم.

أخلاقياً لم يكن محمد عبدالعزيز بأحسن قيادات الجبهة ولا بأسوئهم، فزيجاته محدودة وممتلكاته ليست بتلك الكثرة قياساً لبقية القيادات الرئيسية في البوليساريو، لكنه أفسح المجال لحرمه المنتمية إلى نفس مكونه الاجتماعي، المواطنة الجزائرية التيندوفية خديجة حمدي، لتتبوأ المواقع القيادية الهامة في الجبهة، وتتمتع بنفوذ منقطع النظير في قطاعات النساء والثقافة والإعلام دخلها، حتى باتت إحدى أهم المرجعيات القيادية في المخيمات، وإحدى المتحكمات في المشهد السياسي للبوليساريو.

لقد تمكن عبدالعزيز من تجاوز العديد من الأزمات السياسية الخطيرة التي مرت منها البوليساريو، خاصة بعد هيمنته على قرار الجبهة عقب أحداث 1988 التي كادت أن تعصف به، فكان أن أزاح معظم منافسيه وفي مقدمتهم نائبه البشير مصطفى السيد الذي كان بمثابة الزعيم الفعلي للبوليساريو. كما ألغى ما كان يعرف باللجنة التنفيذية التي كانت تزاحمه في قرار الجبهة السياسي، ليحدث مكانها ما بات يعرف بالأمانة الوطنية، والتي عمل على تمييع دورها الرقابي من خلال توسيعها لتشمل عشرات الأعضاء وفق الحسابات والحساسيات القبلية والمناطقية، ليركز كافة الصلاحيات في شخصه، ويحتكر أدوات التنظيم التي وظفها لشراء الذمم وتدجين المرجعيات الاجتماعية في المخيمات، من شيوخ قبائل وقيادات سياسية ومشايخ التيارات السلفية.

لقد بقي زعيم الجبهة الراحل يدير الأزمات السياسية والأمنية التي تعيش على وقعها البوليساريو طوال عقود من الزمن، دون أن يعمل على إيجاد حلول نهائية لها، ليحافظ على مستوى متحكم فيه من التأزم ويقايض بها مواقف بقية المتدخلين في المنطقة، فيزيد وينقص من منسوب الأزمة بحسب الحاجة. فتارة يطلق العنان للتصريحات السياسية التصعيدية، وأخرى يقدم على اتخاذ بعض الخطوات الميدانية المحدودة، وبين الفينة والأخرى يفسح المجال لتحرك فلول الجماعات المسلحة ومجموعات التهريب وتجارة الممنوعات العابرة للحدود، مستغلاً كافة الخيوط والأدوات السياسية التي بين يديه، حتى صار مثالاً حقيقياً للزعامة البدوية الحكيمة التي تحافظ على شعرة معاوية مع الجميع رغم بيئته الاستثنائية.

لكن ما إن توفي محمد عبدالعزيز حتى ظهر شبح الفراغ السياسي في زعامة الجبهة مجدداً، قبل أن يبدأ مسار أداء البوليساريو في الانحدار المتسارع، على إثر مسلسل الهزائم السياسية والميدانية المتتالية التي تكبدها، بسبب تركيز الصلاحيات والمسؤوليات في يد زعيمها الراحل وغياب الشفافية وتغييب هياكلها التنظيمية، فضلاً عن ضعف تعمق أزمة مشروعيتها السياسية. ليتوج مسارها بمتابعة زعيمها لدى القضاء الإسباني بتهم خطيرة، تهم تورطه في جرائم التعذيب والاختطاف والقتل خارج القانون، بعد أن ضيعت البوليساريو العديد من الفرص لمعالجة ماضي الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان المرتكبة من طرف مسؤوليها طوال فترة زعامة رئيسها الراحل محمد عبدالعزيز.

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

محمد سالم عبد الفتاح
ناشط حقوقي
باحث سياسي وكاتب رأي
تحميل المزيد