لديهن مشكلات أخلاقية.. كيف تنظر المجتمعات العربية للنساء اليساريات؟

عربي بوست
تم النشر: 2021/05/31 الساعة 09:52 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2021/05/31 الساعة 09:53 بتوقيت غرينتش
iStock

لا تحرر من النظام دون تحرر للمرأة، ولا تحرر للمرأة دون تحرر من النظام. إن ارتباط التحرر الوطني والانعتاق الاجتماعي من أغلال الرأسمالية الغاشمة بقضية تحرير المرأة هو ارتباط عضوي لديه ركائز موضوعية. لا يخلو العالم من قضايا عادلة أوجدها/كرسها النظام. لكن مجموع هذه القضايا تخضع إلى ترتيب معين في سلم الأوليات، ليس اعتباراً لأهميتها (فقضايا العنصرية والتلوث وغيرهما مهمة أيضاً) ولا لاعتبار المجهود المطلوب للانتصار لها، لكن لعلاقة سببية بحتة. انتصار أمهات القضايا يتبعه حتماً انتصار بقية القضايا. في النمط المجتمعي السائد حالياً، يعيش الناس في شكل مجتمعات تمثل فيها المرأة نسبة النصف. 

إن استغلال المرأة واستعبادها ناتج عن التقسيم الطبقي للمجتمع مثلما يفسره أنجلز في كتابه "أصل الدولة والعائلة والملكية الخاصة". إذاً فظهور الطبقية واستغلال المرأة مترابطان ومتشابكان في معركة الإنسان ضد النظام ليس في هذا انتصار أو تمييز لهوية جندرية على حساب بقية الهويات، هو فقط رسم لحدود المفاهيم الناقلة للأفكار في هذا المعرض أي بمثابة العقد المؤقت بين الكاتب والقارئ يضمن إطاراً للتفاعل الفكري. فالمرأة التي نتحدث عنها هنا هي التي تخضع للتقسيم الاجتماعي الثنائي الجندر، مع احترام الحق في اختيار حر وذاتي للهوية الجندرية التي تتناسب وميولات كل شخص. إذاً فالاعتقاد في هذه القضية هو تواصل لمجهود إنساني واع بحقيقة الصراع الذي يجعل القضية النسوية على رأس أوكد القضايا حالياً.

ذكورية متجذرة 

لطالما كان النظام أبوياً بصفة عامة، منذ فجر التاريخ تكثفت مجموعة من الأسباب التي جعلت النصف الأول من البشرية يسيطر على النصف الثاني. فقط بعض الاستثناءات النادرة وهي المجتمعات الأمومية (قبيلة خاسي في الهند وقبيلة موسو في الصين…) كسرت هذه القاعدة وكفرت بهذه البنية الاجتماعية. طالما تبوأ الرجل مقاليد الحكم والأدوار الرئيسية في القيادة السياسية والسيادية والتشريع في العقيدة والأخلاق. ولطالما كان للرجل الكلمة الفصل والقرارات المصيرية في النسب والميراث. لتكون المرأة هذا الكائن الذي استعمل النظام الأبوي كل وسائله منذ قرون لضمان الهيمنة عليه اقتصادياً ولتجريده من كل وسائل الدفاع الممكنة. لعل من أهم ما كان يمكن للمرأة أن تدافع به عن نفسها هو الوعي. لكن كيف نتحدث عن الوعي في ظل نظام يعزز الاغتراب، يفصل الإنسان عن وعيه ويحول دونه ودون تحقيق إنسانيته؟ قد لا يكفي هذا السياق لتعداد أوجه العنصرية المسلطة على المرأة باستفاضة. لكن للقارئ أن يتذكر أصناف العنف المادي الاقتصادي السياسي وغيره الذي ترتفع نسبه وتتسارع وتيرته حسب الجهات المختصة والموثوقة والذي تقع المرأة ضحيته. وكيف لنا أن نستغرب انتشار العقلية الذكورية في مجتمعاتنا؟ بل كيف نحترم ذواتنا وذكاءنا حين نبصر فلا ندرك حجم القصف المتواصل لأدمغة أطفالنا برسائل الهيمنة الذكورية منذ الصغر. رسائل تحتفظ بها الذاكرة وتضاف إليها تربية شرقية رجعية تنمط المرأة في دور ثانوي دور المفعول به أو دور المركب الإضافي. فلا تعرف على أساس ذاتها وكيانها بل تعرف نسبة إلى ما تمثله للذكور من محيطها فهي بنت فلان وأخت فلان وأم فلان. هذه المكانة الدونية للمرأة في المجتمع والتي يمثلها غياب التمكين الاقتصادي والسياسي تجعل من المرأة كائناً مستضعفاً فتتراءى للكثيرين إمكانية مهاجمته.

إن أي ظلم، اضطهاد، تعسف وقمع يمارس ضد الإنسانية في إطار قضية ما، يمارس بشكل مضاعف تجاه المرأة. لذلك في كل وضعية تكون المرأة الجزء أو النصف المعرض أكثر للمعاناة والقمع ويثار هنا نظام كامل من الأفكار. أفكار تتشبث بمعتقدات الماضي المترسخة في الرجعية، ترفض الجديد المختلف وخاصة تختزل المرأة في رمز الشرف وتضعها في موقع المفعول به. يحرك هذا الرفض معجماً كاملاً من الألفاظ المسيئة التي تتوجه أساساً لقذف الفتيات والنسوة. يتجلى ذلك في تعبير الكثيرين عن رفضهم لليسار واستهجانهم لفكرة وجود العنصر الأنثوي فيه فتنعت الناشطات في اليسار بأبشع الأوصاف. أما إذا أبدت مقاومة أو محاولة في التصدي لهذا التهجم وإذا أرادت الانتصار لقضية مهما كان نوعها، فتفعل ضدها ترسانة العنصرية الجندرية والأبوية باعتبارها أركز دعائم النظام الرأسمالي… هذه الاعتبارات تقوم كدليل ملموس للفكرة القائلة بأن لا فصل بين تحرر المرأة والتحرر من الرأسمالية بل كلاهما نصف مكمل للآخر في نفس المعركة. 

مزايدات أخلاقية بلهاء 

إن ما يعانيه اليسار من ضعف في العالم بصفة عامة ومن بعد عن مراكز صنع القرار والدوائر المالية، يجد ترجمته في المجتمع. الحاضنة الشعبية لهذه المرجعية الفكرية التقدمية والديمقراطية ضعيفة خاصة في البلدان الأكثر محافظة. تلك البلدان التي يسود فيها منطق العرف الاجتماعي والعيب أكثر حتى من هيمنة التشريعات الدينية أحياناً. كثيرة هي مظاهر رفض اليسار لا تتجسد فقط في ضعف التصويت وقلة المنخرطين في صفوف الأحزاب والتكوينات اليسارية بل أيضاً في وصم المنتمين إليه بوصوم أخلاقية بحتة. ما يتعرض إليه شباب اليسار من الذكور تتعرض إلى ضعفه شابات اليسار من الإناث.

إن اليسار بصفته مشروعاً مجتمعياً كاملاً، يحمل طرحاً سياسياً وطرحاً ثقافياً وطرحاً اقتصادياً. لذلك تقتضي الموضوعية نقده بحجج من طبيعة تعريفه ذاتها. لكن أسهل ما يمكن اعتماده من حجج هي الحجج ذات الطابع الأخلاقي والتي تفتقر للمتانة. لطالما اختزل السواد الأعظم من الشعب اليسار في دعوة مجموعة ضالة منفلتة من القواعد وعصية على الانضباط إلى التحرر التام وإطلاق العنان لكل أنواع الحريات الفردية أو الممارسات التي تخرج عن إطار قواعد المجتمع. لا يتسع المجال ولا تسمح حتى اللباقة بالحكم على الممارسات الفردية لكل فصائل اليسار كل على حدة فيما يتعلق بمنهج حياتهم وسيرتهم ومدى ملاءمتها للطرح اليساري النظري. لكن من يتجرأ على إطلاق هذه الأحكام على المنتسبين/ات لليسار الشيوعي خاصة لا يكلفون أنفسهم حتى شقاء البحث عن صحة أحكامهم بالعودة إلى أدبيات اليسار وتأصيل حججهم علمياً. تضاف إلى ذلك العقلية الذكورية التي تكونها روافد ثقافية ودينية وراثية أساساً فتنعت الفتيات بكل أنواع السباب والشتائم التي تمس أساساً الشرف نظراً للوعي الدفين للكثير من الجهلة بأن الفتيات هن الهدف الأسهل في المهاجمة.

دور اليسار الماركسي في الترويج لنفسه

لئن كان ماركس عبقرياً لإلمامه بعدة ميادين، إتقانه لعدة لغات وقدرته على الإنتاج الفكري الثري (باعتبار إضافته في عدة اختصاصات)، فإن أهم ما يميزه هو فلسفته المادية التي تتسم بالواقعية والصلابة والقدرة على تخطي كل امتحانات المنطق. ليس في ذلك إنكار لتأثير هيجل عليه ومساهمة أنجلز في تطوير فلسفته أو دور الرفاق الذين ساهموا بدورهم في تركيز دعائمها. ما تتمتع به الماركسية هي إيلاؤها الجانب المادي الاقتصادي والاجتماعي الأهمية الأولى في تحليل وضع الاستغلال الرأسمالي ودراسة شروط تحرير طبقة البروليتاريا وكل العمال الذين يبيعون قوة عملهم. لذلك من الأنسب لمنتسبي/ات اليسار ترويج خطاب يرتكز على الأهداف الاقتصادية للماركسية في إطار سياسة دعائية كاملة. كيف لا نتحدث عن سياسة دعائية في عالم يعترف بالدعاية والترويج كاختصاصات علمية قائمة بذاتها؟ كيف لا نوليها الأهمية التي تستحق في حين أن جل ما يفعله النظام هو حسن الترويج لنفسه وإتقان التسويق لسلعه؟ ألم يتحدث نعوم تشومسكي منذ أكثر من 30 سنة عن دور الإعلام في غسل العقول وزرع الاغتراب وسلب الإرادة؟ سنة 1988 كتب نعوم تشومسكي كتاباً بالتعاون مع إدوارد هيرمان يفسر فيه الدور الرئيسي الذي يلعبه الإعلام في خلق رضا الشعب وتحويل المواطن إلى أجير مطيع مستهلك مسلوب الإرادة يتحكم فيه النظام. هذا الكتاب يدمر الفكرة القائلة بأن الإعلام يعمل كقوة مضادة للنظام. إذ إن أغلب وسائل الإعلام متذيلة منبطحة. ما يسعى الإعلام إلى ترويجه: بضائع وسلع جديدة تغرق الأسواق، مثال المرأة ذات الجمال المثالي، مثال الرجل الرياضي… كل ذلك بخلق حاجة لم تكن أصلاً موجودة وبخلق سوق استهلاكية قادرة بسبب غياب الوعي على تحقيق مكاسب مادية للأقلية.

نحن نعيش ضمن مجتمعات حيث نجح النظام في تثبيت الحكم على النوايا والمظاهر كردة فعل أولية عند ملاحظة أي شيء أو شخص أو ظاهرة جديدة. لا سبيل لمواجهة هذا النظام إلا بإتقان قواعد اللعبة كأضعف الإيمان أمام سيطرته المادية وامتلاكه لكل المؤسسات الرسمية والدعائية وأمام ترسانة البناء الفوقية من قوانين وأخلاقيات التي يستمد منها شرعيته. إنه لمن المحزن حقاً أن يسجل المرء طواعية في مرماه. إن الدفاع عن هذا الموقف الداعي إلى إظهار التحفظ المطلوب يتطلب إنكار جملة من التهم. لا أحد يستطيع التحكم في نمط عيش أحدهم ولا حتى شرطة الأخلاق أو محاكم التفتيش لأن أي فعل يستمد وجوده أولاً من فكرة الإيمان به والرغبة في إتيانه، كما لا يمكن لأحد أي ينصب نفسه وصياً على الأخلاق. المرفوض هو أن يتلخص اليسار بالنسبة للكثيرين في مجرد هيئة خارجية ليس فقط لجهلهم لكن أيضاً لسوء تقدير من اليساريين واليساريات… في حين يختصر الكثيرون تعريف أحد الأماكن المشبوهة/المرفوضة اجتماعياً بارتياد اليسار لها… عوض أن يعرف اليسار نفسه عن طريق أهدافه ومشاريعه. 

لم يذكر أي من منظري الماركسية فائدة أو ضرورة كسر فكرة وجود الحدود والقوانين التي تضمن علاقات صحية ووضعيات صحية …كما يجب على "النخبة" الواعية المطالبة بالارتقاء بالبقية مراعاة الخصوصيات الثقافية للشعب…. ليس في ذلك أي انحدار في مستنقع اللاوعي بقدر ما هو تقصير في تمثيل فلسفة بشكل وفي صادق .

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

أميرة حجلاوي
ناشطة تونسية سياسية
ناشطة سياسية يسارية
تحميل المزيد