في الآونة الأخيرة، أصبح الانسحاب نحو العزلة والفردية من سمات الكثير من الشباب إن لم يكن أغلبهم، في حين تجد المشاركة على صفحات السوشيال ميديا تتخذ منحى آخر صاعداً وبشدة، حيث تزدحم صفحات التواصل بالمجتمع المتواصل مع بعضه البعض وخاصة الشباب منهم كذلك، لينتقل التواصل في أغلب أحواله إلى مجتمع افتراضي، ليخلف ذلك مساحات فراغ واسعة لدى الشباب.
حالة الفتور التي أصابت مجتمعنا خلال هذا العقد الأخير المليء بالأحداث والتغيرات الكبيرة، يمكنك ملاحظتها في سلوك الشباب المتجه نحو العزوف عن المشاركة؛ من خلال مجتمعه في أنشطته المختلفة السياسية منها والاجتماعية والخيرية وغير ذلك، حتى طال الأمر الدوائر الشخصية لدى كلٍّ منا؛ فأصبح التواصل والتلاقي مع دوائر الأصدقاء افتراضياً أكثر منه حقيقياً.
بالنظر إلى الميدان السياسي، تجد الأحداث الأخيرة في وطننا قد خلفت وراءها زهداً في ممارسة العمل السياسي من خلال دوائرهِ المختلفة ومن أهمها الانضمام إلى الأحزاب والمشاركة في الانتخابات مما يبرز معه الدور الفاعل للشباب، على نقيض ذلك تلحظ التفاعل مع الشأن السياسي في دوائر السوشيال ميديا كبيراً في تناول القضايا والشخصيات ولو عن طريق السخرية.
العمل الجماعي والنشاط الطلابي في الجامعات كذلك، من أهم المظاهر الدالة على هذه الحالة؛ حيث أصبحت الاتحادات الطلابية هيئات شبه جامدة ليست على ذلك المستوى الذي كان من قبل في التفاعل مع القضايا المختلفة، كما لم تصبح المؤسسات المدنية والجمعيات الخيرية حاضنة لطاقات الشباب على النحو الذي كان من قبل.
قد تكون كذلك ظاهرة الإلحاد أو البعد عن الدين وتشوش الفكر ذات ارتباط بهذا المعنى، وإن كان هذا الأمر يحتاج إلى كتابات مفصلة، حيث الأمر أكبر من سؤال يسأله شاب ويجيب عنه شيخ أو جدال يدور بين صفحات التواصل حول أفكار معينة وتنتهي المعاناة، بل السؤال كما يبدو لي عن شاب يحتاج إلى الاندماج في مجتمع يتبناه ويعالجه ويقومه بالمعايشة، وهنا يأتي الفراغ الذي خلفه نقص الأنشطة الجماعية والمشاركة في مؤسسات المجتمع الرسمية وغير الرسمية.
هذه الأمثلة عبارة عن جزء وليس كلاً، حيث طال الأمر دوائر أضيق من ذلك وأصغر بكثير فأصبح قضاء الوقت والتفاعل مع الأحداث والتواصل من الأصدقاء والتعبير عن الرأي ومظاهر النقد والدعم والتأييد كلها من خلال وسائل التواصل ببرامجه المختلفة، ليبدو الأمر أكثر وضوحاً بعد جائحة كورونا، فتنتقل دروس العلم والمحاضرات والامتحانات إلى ميدان السوشيال ميديا كذلك، حتى تجسدت الصورة بالكامل لمشاهدة هذا الفرق بين التواصل الحقيقي والافتراضي.
إن التفاعل الحقيقي بين الناس في ساحات العمل والأنشطة المختلفة، بداية من الأنشطة التعليمية والتثقيفية والسياسية، وصولاً إلى الأنشطة الخيرية والاجتماعية وانتهاءً بالأنشطة الرياضية والترفيهية، وما أصاب ذلك من حالات الخمول والفتور، لا يعوضه التواصل الاجتماعي رغم ما يشمله من مشاركات وفعاليات، لكن المستهدف الأخير من ذلك كله هو الفرد الذي تجده وقد أصابته روح العزلة؛ مما يعني أنه لا يزال يفتقد الاندماج والاتصال الحقيقي.
ربما يكون هذا الاحتواء المفقود فيه الإجابة عن بعض من الأسئلة والحل للكثير من المشكلات التي يعاني منها الشباب اجتماعياً ونفسياً بل قضايا فكرية كذلك ربما تؤرق الكثيرين ولا تزيدهم منصات التواصل فيها سوى الحيرة والتشتت، فالحل يكمن حيث العمل المشترك والاندماج وسط الأحداث والتفاعل معها وتبادل الخبرات من خلال التقابل والتلاقي، فتذوب معه عقد النفس وحيرة العقل كذلك.
كذلك التفاعل الحقيقي بما فيه من مشكلات يصنع شخصيات متزنة تعيش وتعمل وتتفاعل وتقوم وتواجه، وفي هذا كله تنمو وتنضج، من خلال الأنشطة الجماعية بما فيها من منتديات حوارية وفكرية فاعلة، وأعمال درامية ومسارح شعبية يشارك فيها أبناء الوطن جميعاً وتتبنى قضاياهم وتبرز مواهبهم، وأحزاب سياسية يجد الشباب فيها سبيلاً لخدمة وطنهم وتفعيل رؤاهم على اختلافها، ومؤسسات خيرية وأنشطة ترفيهية، واتحادات طلابية تعيد إلى الطلاب عنصر المشاركة والفاعلية.
المساجد كذلك التي كانت تتبنى كل هؤلاء وتعمل على تربيتهم، المساجد العامرة التي لا تخلو من حلقات الذكر ومجالس العلم، لا تلك التي تضيق ذرعاً بروادها بمجرد انتهاء الصلاة المفروضة، فهل الخواء الروحي وضعف الجانب الديني الذي نفتقده تعوضه حلقات على منصات التواصل؟ إنها لا تعوضه على ما فيها من فائدة، ويظل الاحتياج إلى التواصل الحي ملحاً.
إذا كان التواصل والتفاعل أفعالاً تشاركية تتطلب اجتماعياً وسلوكاً متبادلاً يحصل به تأثير كل واحد في الآخر، والمجتمع ما سمى مجتمعاً إلا من الاجتماع وما ينتج عنه من آثار كذلك، فحاجة كلٍّ منا إلى مجتمع يتبناه بما يحمل من حماس وبما يملك من مواهب وما يطمح إليه من آمال حاجة بالغة الأهمية حتى يتحقق كل واحد منا في ذاته ووسط مجتمعه، فأنَّى لصفحات التواصل بتعويض ذلك الفقد وسد ذلك الخلل ومعالجة هذه القصور!
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.