أحد عشر يوماً كانت كافية لإلقاء نتنياهو المنشفة في حلبة الصراع مع المقاومة في غزة، ليدفع نتنياهو وحكومته ثمن حكم القضاء المسيس والقاضي بطرد الفلسطينيين من منازلهم في حي الشيخ جراح، وثمن الرشوة السياسية المقدمة للمتطرفين اليهود بالسماح باقتحام الأقصى، في حماية آلاف الجنود المدججين بالسلاح، والاعتداء على المصلين في مصلاهم في رمضان.
فبعد الأحداث العنيفة التي وقعت صباح العاشر من مايو/أيار الجاري عقب اقتحام آلاف من أفراد شرطة الاحتلال المسجد الأقصى، ما أسفر عن إصابة أكثر من 331 فلسطينياً، نشرت كتائب القسام مدعومة بكافة فصائل المقاومة بياناً أمهلت فيه الاحتلال ساعتين لسحب جنوده من الأقصى وإطلاق سراح المعتقلين من المصلين في الأقصى والمدافعين عن حي الشيخ جراح. ووفت المقاومة بوعدها، فمع انتهاء المهلة أمطرت المقاومة المدن المحتلة بألف صاروخ في اليوم الأول فقط، لتستمر العملية التي أطلقت عليها الغرفة المشتركة للمقاومة اسم "سيف القدس"، وليرد الاحتلال بقصف المدنيين.
لكن المقاومة أظهرت ما لم يتوقعه قادة الاحتلال من استعداد وكفاءة، حتى أصبح كل شبر من المدن المحتلة تحت نيران المقاومة التي نسقت فيما بينها زمانياً ومكانياً بشكل فعّال.
ومكاسب عملية "سيف القدس" حققت نجاحات متعددة، فناهيك عن النجاح العسكري من حيث الإعداد والتخطيط والتنسيق والحفاظ على السرية وتماسك الجبهة العسكرية، وأخذ زمام المبادرة وانتزاع حق البدء، وإسقاط نظرية التفوق وصناعة معادلة الرعب، فإن تماسك الجبهة الداخلية في غزة وما صاحبه من دعم شعبي تمثل في الحراك المقاوم سلمياً في الداخل الفلسطيني في القدس والخط الأخضر، والدعم الشعبي اللامحدود من العرب والمسلمين وأحرار العالم، يعد من أكبر المكاسب.
كما أن العملية كشفت هشاشة جيش الاحتلال وضعف تخطيطه، وعرّت حقيقة امتلاكه قوة الردع في معادلة التوازن التي صنعتها أمريكا، إلا أنها كشفت أيضاً هوان الحكام العرب وجيوشهم بعد ما حققته المقاومة محدودة الإمكانيات خلال الأحد عشر يوماً هي عمر المعركة، حتى إن استجداء نتنياهو الرئيس الأمريكي لمده بالسلاح ومزيد من الوقت أحرج بايدن أكثر مما أحرج نتنياهو المهزوم أمام المقاومة في كل الجولات التي خاضها في مواجهتهم.
خطاب النصر وردة فعل الشعوب
لم يكُن لقبول تل أبيب دعوات التهدئة من طرف واحد إلا معنى واحد وهو القبول بالهزيمة، وإعلان النصر للمقاومة. فلم تحقق عملية "حراس الأسوار" التي أطلقها جيش الاحتلال أهدافها. فلم تنه على قدرات المقاومة، ولم تحد منها، كما ادعى لاحقاً، ولم تطمر الأنفاق التي تخرج أشباحاً تؤرق مضاجع الاحتلال وجيشه ومستوطنيه، ولم تسفر عملية "حراس الأسوار" إلا عن تأكيد أن هذا الجيش وهذا الكيان يمثل الإرهاب في العالم، فقصف المدنيين والأبراج السكنية، وقتل 232 مدنياً بينهم 65 طفلاً و39 امرأة و17 مسناً، ليؤكد أيضاً حقيقة الدولة الديمقراطية الوحيدة في المنطقة كما يروجون لشعوب الغرب.
لكن على الطرف الآخر وبعد انتهاء العمليات ودخول التهدئة حيز التنفيذ يوم الجمعة 21 مايو/أيار الجاري، خرجت الشعوب الحرة إلى الشوارع محتفلة بنصر المقاومة على الاحتلال وإعادة الهيبة للعرب والمسلمين، ومن لم يستطع الخروج منهم لقمع حاكم أو بطش جهاز أمني، كانت له مساحة للتعبير عن فرحته من خلال مواقع التواصل الاجتماعي، بعد أن أصبحت المتنفس الوحيد من قمع الحكومات.
وأجمل ما في هذا الانتصار أن الشعوب تناست جراحها ومشاكلها وآلامها وفرحت بالانتصار، وشارك السوري والعراقي واللبناني والمصري واليمني والليبي والسوداني والأفغاني في هذه الفرحة، كل بحسب استطاعته؛ سواء في الشارع أو افتراضياً، كما خرجت باقي الشعوب، لكن ذكر تلك الشعوب تحديداً جاء لما تعانيه من حرائق في بيوتها، فعلى الرغم من تلك الحرائق خرجت فرحة بإطفاء حريق في جامع الأمة.
واستجابة لهذه الفرحة خرجت المقاومة وأذرعها السياسية لتلتحم بفرحة الشعوب؛ في بيانات تؤكد الانتصار وترسخ الهزيمة في ضمير الاحتلال قيادة وشعباً. لكن خطابات الانتصار جاءت مشوبة بعبارات عكرت فرحة بعض الشعوب المتحسسة من بعض التشابكات والتقاطعات، فالعراقي والسوري واليمني واللبناني ساءهم أن تشكر المقاومة الفلسطينية دولة إيران، وهي التي تذيقهم طعم الموت كل يوم عبر ميليشياتها. والمصري ساءه شكر النظام الذي انقلب على إرادته وخلع رئيسه وقتل الآلاف واعتقل عشرات الآلاف وشرد الآلاف، وساء كل حر غيور ما ساء العراقي والسوري واللبناني والمصري، ورغم تبريرات المقاومة لا تزال غصة هذا الخطاب المتكرر في حلق العرب والأحرار، ولكن..
تعالوا إلى كلمة سواء
من جديد يعود الجدل بعد كلمات الشكر تلك التي جاءت على لسان قادة المقاومة عسكريين كانوا أو سياسيين، فتقاطع المصالح لا يزال يثير زوابع الشقاق في أمة أريد لها ألا تتفق كما يقول العوام، ولقد كان لكاتب هذه السطور حديث لعقلاء هذه الأمة أجدده مع دعوة علّها تلقى قلوباً واعية قبل الآذان المصغية. والحديث هنا لمثقفي هذه الأمة وصانعي الرأي قبل السياسيين المدفوعين بمآلات المصلحة الآنية، من دون النظر لنتائجها الاستراتيجية.
في مقال "ليته لم يقتل.. قاسم سليماني" كتبت مشخصاً، ودعوني أقتبس ولعل القارئ يعود إلى المقال: "مقتل قاسم سليماني كشف عواراً في منظومة الفكر السياسي العربي، وهنا أخص الساسة الذين سلكوا درب العوام وساروا في طريقهم مدفوعين، تحت ديكتاتورية الشعوب، إلى أن يسلكوا سلوك العوام..". وفي سؤال أصبح محيراً بعد أن اشتعلت النيران في أغلب بلداننا تساءلت: "فلو سألت العربي من هو العدو لاحتار، لم يعُد للعرب محددات واحدة للعدو، ولم يعد العدو واحداً للعرب، ولو وسَّعنا الدائرة وأدخلنا المسلمين لجاءت الإجابات متضاربة بل متنافرة".
لكني حاولت التقريب فقلت: "فليس في السياسة عدو دائم ولا صديق دائم، والمصالح حاكمة والأولويات ضابطة، وعلينا أن نعذر بعضنا بعضاً، كما علينا أن نراعي في مصالحنا المحددات الجامعة للأمة". ودعوت ساسة العرب أن يتحلوا بمزيد من سعة الأفق لاستيعاب الشعوب من أجل وحدة الصف، فقلت: "كما يجب أن يتصرف الساسة كرجال دولة لا قادة جماعات أو حركات، فلا ينظروا تحت أقدامهم ويوسعوا دائرة النظر واضعين في الاعتبار مساحات استيعاب الشعوب وآمالهم وأحزانهم".
واليوم أجدد الخطاب وأضمنه دعوة، لكني خطابي ودعوتي لن يكونا هذه المرة للساسة، بل للمثقفين من صانعي الرأي العام، وبناة الوعي في أمتنا.. أن تعالوا إلى كلمة سواء، فلا شك أن كل بلداننا فيها من الحرائق ما يستوجب النفير لإطفائها، وهو تكتيك صنعه الاحتلال قديماً وورثه الوكلاء للفت الانتباه عن القضية المركزية. من ثم فعلينا أن نفهم المقاصد ونسعى بالأسباب لإزالة جذور المشكلة ونوحد خطابنا، ونفهم عدونا ونوعي بذلك شعوبنا. فلا قضية تعلو على أخرى، وحديث أن قضية فلسطين لا غبش فيها، هو حديث قاصر، فتحرير فلسطين يبدأ بتحرير دمشق وبغداد والقاهرة وصنعاء، والتاريخ على ذلك شاهد أيها المثقفون، فقدر هذه الأمة أن تتداعى بالسهر والحمى إذا ما اشتكى منها قُطر.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.