تصريحات السيد أسامة حمدان حول علاقة حركة "حماس" بالنظام السوري أثارت مثلها مثل تصريحات سابقة لقياديين في "حماس" وذراعها العسكرية المتعلقة بسوريا أو إيران أو حزب الله عاصفة من الاستهجان والهجوم على صاحبها وحركته التي ينتمي إليها. أتى الاستهجان والهجوم إما من شركاء الحركة في مرجعيتها أو من المخالفين لنهجها. وفي واقع الثورات المضادة والأنظمة السلطوية، الاستقطاب الحاد هو الأصل، ولا قبول بخيارات توافقية، ويشهر في وجه من يتبناها كل الأوراق الضاغطة من أجل سحبها وجرّه إلى معسكر أحد الأطراف المتصارعة وإلا فلعنة التصنيفات ولغة التخوين بالانتظار.
في حالة "حماس" فإن الأمر أكثر تعقيداً فبالإضافة لهذا المزاج العصبي السائد في المنطقة، فإن ما يطرح من إشكالات أمامها في علاقاتها بالمحاور الإقليمية ليس جديداً على الفصائل الفلسطينية، بل هو امتداد لتاريخ مرير مع الخارج. ذلك أن العلاقة بين فلسطين ومحيطها كانت ولا تزال علاقة ملتبسة بحكم التداخل الحاصل الذي فرضته طبيعة الصراع مع الكيان الدخيل. لم تتجاوز نظرة الأنظمة العربية لفلسطين نظرة الوصاية عليها حتى وهي تقدم بعض أشكال المساندة لها، كما استخدمتها أيضاً من طرفها كورقة للمساومة ولتحسين شروط التفاوض مع المجتمع الدولي لخدمة مصالحها الضيقة، كما عبر باراك أوباما كثيراً في كتابه الأخير.
في المقابل، فإن بعض التيارات داخل القوى الفلسطينية التقليدية رأت في التدخل في الشؤون الداخلية لدول عربية مجاورة دعماً لقضيتها وتصحيحاً لأسباب نكبة الشعب الفلسطيني باعتبار مسؤولية "الرجعية العربية" الثابتة في مأساته، وهو ما جعلها تتقاطع بشكل فعلي في أوضاع الأردن الداخلية في فترة من الفترات، أو تجد نفسها في مستنقع الحرب الأهلية اللبنانية وتصطف إلى جانب صدام في اجتياحه للكويت بقرار من ياسر عرفات. إلا أن الفاتورة كانت باهظة، مما تسبب في ضرر بالغ للقضية الفلسطينية كونها الحلقة الأضعف في كل هذه الجبهات التي لم تحسن تلافي المكائد المعدة لها فيها.
لم يتغير تصور النظام الرسمي العربي عن القضية الفلسطينية، كذلك الأمر بالنسبة لعدد من النخب والتيارات في الرقعة العربية التي كانت تطلب بدلاً عن أي تضامن قدمته في السابق لفلسطين وبعضها اعتبر الفلسطيني جاحداً لأنه لم يعطها ما كانت تأمل منه بعد أن استفاد من دروسه المريرة. أصبحت الفصائل الفلسطينية الحديثة، على رأسها "حماس"، أكثر نضجاً ممن سبقها والتي رأت أن أفضل ما يمكن أن تقدمه للقضية ولأمتها هو أن تفرغ جهدها وطاقتها من أجل مواجهة عدو الجميع وكفايتهم شره.
ومع ذلك فقد تحملت "حماس" ضغطاً رهيباً في فترة الربيع الثوري في المنطقة كي لا تغادر موقعها، وأمام دموية حليفها السابق السوري وعدم قبولها التوظيف من طرفه في صراعاته فقد اتخذت قرارها بكل شجاعة بمغادرتها للأرض السورية وسجلت بذلك خسارة فادحة لها. أما وقد انتهت الثورة وتحولت إلى تحارب مقيت وصدام أهلي عنيف وتصفية حسابات إقليمية ودولية على الأرض السورية وقودها الآلاف من المقاتلين الأجانب، وبعد نجاح النظام البعثي في السيطرة على الأوضاع في جل الخريطة السورية استوجب إعادة تقييم تموقع الحركة الحالي ليس من باب مصلحي ضيق وإنما من باب الحفاظ على وظيفة "حماس" التحررية والمركزية في مواجهة المشروع الصهيوني.
بعد كل هذا ألا يحق للحركة إذاً أن تطرح تساؤلات عن الزاوية التي تم حشرها فيها حتى تحولت إلى الخاسر الأكبر في كل ما يجري في المنطقة؟ ولماذا عليها أن تستمر في دفع ثمن حماقات أطراف غير مؤتمنة على ثورتها والتي ضيعتها بسياساتها وبارتباطات بعضها المشبوهة والتي لم تبذل مع ذلك أي مجهود لإنتاج أي نقد ذاتي لتجربتها؟ ولماذا يكون التعامل مع جل الأنظمة العربية مقبولاً، وهي التي لم ترسخ استقرارها إلا بلغة الحديد والنار والتنكيل بشعوبها؟
ولماذا لا يطرح أي إشكال في التواصل مع المحتلين التقليديين من الفرنسيين والإنجليز وحتى الأمريكان؟
ما يطلب من حماس هو أمر تعجيزي من أطراف ليتها تحافظ على جزء من الألف من المبادئ التي تطالب بها الحركة الخضراء وتتنازل عن جزء من رفاهيتها لقاء ذلك، تلك الأطراف المهادنة لمن تدعمها من الأنظمة الاستبدادية، والمشرعنة لتطبيع حلفائها والتي تريد انحراف الحركة عن بوصلتها التحررية وأن تتخلى عن الدعم الوحيد الذي تتلقاه لإثبات مسلماتها بحق خصومها وانتزاع شرف دعم المقاومة منهم. عوض أن تدعو من توالي بإسناد المقاومة الفلسطينية تريد أن يتساوى الجميع في الخذلان حتى ترتاح وتتفرغ لجبهة نصرة فلسطين بالشجب والاستنكار.
نقر هنا بأن الدعم الإيراني والسوري للمقاومة الفلسطينية ثابت ولا ينكره إلا مكابر متعصب، نعم قد ننتقد مستوى مواجهة هذا المحور المباشرة للعدو الصهيوني وتحييد جبهاته والرد على عدوان الصهاينة المتكرر عليه بشكل محتشم، لكن يبقى دعمه هو الدعم الوحيد الذي يصل إلى مقاومة الفلسطينيين وجرأته في هذا الباب واضحة. كما نذكر أيضاً أن ما يقدمه للمقاومة لا يعطيه صك براءة بخصوص سلوكه الاستبدادي والطائفي وبخصوص فساد رموزه. لن تجمل الصورة الأولى الصورة الثانية ولن تلغيها، ويوم تنضج الشروط وتُمْتَلَكُ القدرة يجب محاسبة مسؤولي هذا المحور ومسؤولي غيره من المحاور ممن أحرق بلداننا واحداً واحداً من طرف شعوبهم ويجب تزكية هذا المسعى من طرف الجميع في حالة تحققه، فالجرائم لا تسقط بالتقادم ولا يشفع الوقوف في موقف من مواقف الحق والشرف تزكية الظلم أو المشاركة فيه في جبهات أخرى.
لكن من الهزل رفض أي دعم مقدم من المحور الإيراني بحجة أن فلسطين لن يحررها إلا طاهر، لأنها حجة غادرة ماكرة تتقمص الطهرانية من أطراف لا تعتبر فلسطين قضية ذات أولوية قصوى ولا تحمل الحرقة عليها والتي تضع ملفها في رفوف الانتظار ريثما تنتهي من حملاتها التطهيرية المزعومة التي تستخدم فيها للمفارقة كل ما يضرب طهرها وصدقها. أما فلسطين فلتمت جوعاً ولتهجر عائلاتها وليدنس أقصاها ولتشكو مقاومتها من قلة الزاد والذخيرة وليصارع المرابطون فيها بصدورهم العارية عصابات المستوطنين الإرهابية.
النتيجة أن هذا التصور التطهري أدى بنا إلى مزيد من التشظي بدل جمع شتات الأمة على كلمة واحدة وعلى بوصلة وحيدة، ففي إطار التصفية والتطهير سنغرق في دوامة لا أول لها ولا آخر، ولأن لا أحد مبرأ من النقص ومن الأخطاء، ولأن كل القوى والتيارات قد تلطخت بدرجة أو بأخرى في أحداث الربيع العربي، فإن هذا الصراع لن يسفر إلا عن مزيد من الدمار ومن الخراب. كذلك فإننا حين نرهن إسناد فلسطين بتوفر شروط محددة فإننا نقوم بتقليم مجاني لأظافر الفلسطينيين، ذلك أن فلسطين بحاجة لجميع أبناء أمتها ولجميع أحرار العالم، ووحده التدافع من أجل تحريرها من سيحدث الفرز اللازم وسيخلصها من الزبد ويبعد عنها كل مدع. ثم إن تلك الأموال المبذولة من طرف إيران وسوريا وحزب الله هي أموال شريفة حتى لو أنفقها الطواغيت، فهي في النهاية أموال الأمة وأموال شعوب تتنفس حب القضية الفلسطينية.
الدعم المقدم لحماس وللفلسطينيين يختلف جذرياً عن أي دعم، فالحركة ليست حركة مرتزقة وقد أثبتت أنها عصية على التوظيف فهي لم توجه بندقيتها خارج الأرض الفلسطينية ولم تستخدمها إلا في سبيل ترسيخ خيار المقاومة، وهذا أمر يعلمه القاصي والداني، كما لم يثبت أن حماس أوصدت الباب على أي طرف عربي أو إسلامي هَمَّ بتقديم أية مساعدة لها، هم من كانوا يوصدون وما زالوا عليها الباب. ثم إن الدعم المخصص لحماس ولغيرها من الفصائل الفلسطينية ليس صدقة أو من باب التفضل على حركة تحررية والتكرم عليها، فهو يندرج في إطار الواجب وفي إطار وفاء الأمة باستحقاقاتها تجاه قضيتها المركزية ضد عدو دخيل يشكل خطراً استراتيجياً كبيراً على وحدة المنطقة برمتها. وليس بوسع أي طرف أن يتنكر لها ويتخفف من عبئها بحجة الانشغال بشؤون بلده، على الأقل قبل أن يعوضها عما ألحق بها من هزائم ومن نكبات من باب تسديد الدين المتراكم عليه بفعل تدخله في شؤونها وبفعل معاركه الفاشلة التي خاضها باسمها منذ فجر الصراع مع الكيان الصهيوني والتي زادت العدو توسعاً وتغولاً في المنطقة.
لا يجب أن تشعر حماس بالحرج من تلقي أي دعم صادر من أية جهة عربية أو إسلامية ومن ربط العلاقة مع صاحبه في حدود نقطة دعم المقاومة بشرط ألا تتجاوزها لغيرها، وهو ما حافظت عليه الحركة باقتدار لحد الساعة، إلا أنها مع ذلك يجب أن تشتغل على خطابها الإعلامي من أجل تهذيبه وضبطه لمنع أي انفلات عن هذا التوجه، وذلك حتى لا يخلق لها متاعب إضافية هي في غنى عنها، وحتى تقطع الطريق أمام كل متربص بها وبمقاومتها.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.