شب جديد: مرحب بيك في ولاد القدس

عربي بوست
تم النشر: 2021/05/26 الساعة 12:50 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2022/03/22 الساعة 13:00 بتوقيت غرينتش
عربي بوست

الكلام هو الطريقة الأكثر شيوعاً للتعبير عن المشاعر والأفكار، لكن وعند "شب جديد"، الكتابة هي الطريقة الأكثر فاعلية للتعبير عنهما. نحن نكتب لكي نعبِّر عن الغضب، الحزن، أو الألم.

"الكتابة بديل الانتحار"، نُسبت هذه الجملة للعديد من الكتاب علی مر التاريخ، لا يعنينا حقيقة نسبها، المهم هو ما تعنيه الجملة ومدى صدقها. الكتابة على الطريقة الفلسطينية لا تعني بالضرورة أنها بديل الانتحار، إذ إن الكتابة عن ولفلسطين قد تكون عملاً انتحارياً لا يختلف عن أي عملية يقوم بها شاب فلسطيني يُكبد به الاحتلال خسائر فادحة!

الراب لمقاومة الاحتلال

قد يجلب هذا العنوان السخرية، خصوصاً ممن لا يعرفون الكثير عن تاريخ ونشأة فن "الراب" حول العالم.

ظهر الراب بقوة في البداية لمقاومة ملامح العنصرية والإقصاء المتعمد للأفارقة الأمريكيين في الولايات المتحدة في سبعينات القرن الماضي. البعض ينسب منشأ "الراب" لدولة جامايكا عند شيوعه بين العصابات المتبارية على طريقة شعراء الجاهلية العرب. ولكن، في المطلق، يمكن تعريف الراب بأنه "فن الشارع"، الطريقة الأسرع والأكثر تداولاً للحديث عن القضايا الكبيرة والتعبير عن الفئات المهمشة والمتمردة في المجتمع بمفردات بسيطة تعبر عن قضايا كبيرة. وفي فلسطين، البلد الثائر، الذي شكل في وعيي مفهوم النضال والمقاومة يعتبر الراب إحدى أبرز الوسائل لمحاربة الاحتلال.

فن الراب في مصر

يعد الراب في مصر حالياً أحد أهم أشكال الموسيقى وأكثرها انتشاراً بعدما نجحت موجتاه الأولى والثانية في ترسيخ حضوره على منصات مواقع التواصل وبرامج الموسيقى الأكثر رواجاً، كذا بدأ شيوعه بالشارع المصري، خاصة بين أوساط الشباب والمراهقين.

بدأ شيوع الراب في مصر مع انتشار قرينه "التراب"، والذي يعد فرعاً من فروع عائلة الراب، لكنه يعتمد أكثر على المؤثرات الصوتية وحُسن الموسيقى وسهولة الكلمات واعتمادها على القافية وبساطة المواضيع التي في الغالب تدور حول مركزية الذات وصعوبة مواجهة العالم. 

لكن لا تخرج المواضيع المغناة في الراب المصري عن نرجسية مغني الراب وإمكانياته وقدراته الخارقة في خطف المعجبات، بالمقارنة بزملائه الذين يحرص على ذمهم والتقليل من شأنهم بشتى الطرق، مع مواربة كل ذلك ليخرج في صورة "نكش" أي نغزات قوية، تخلق معركة من لا شيء، ويربح هو جولة غالباً ما تجلب بعدها عدة جولات.

فن الراب في فلسطين

الموجات الأولى للراب في الوطن العربي لم تستمر في الغالب بسبب الصعوبة البالغة في الانتشار وعدم وجود شركات إنتاج، ولكن في العقد الثاني من القرن الحالي بدأت منصات التواصل الاجتماعي في منح المبدعين فرص مجانية للانتشار، ومنها انطلق الراب تقريباً في ربوع الوطن العربي، وفي "2015" تأسست "بلاتنم" شركة فلسطينية للإنتاج الفني بقيادة "الناظر" (محمد مسروجي) وهو المنتج الموسيقي، و"شب جديد" (عدي عباس)، الكاتب والمؤدي الرئيسي، و"شب موري" (أحمد زغموري).

ليش ما منتمسكن؟ لأنه عيب الواحد يتمسكن، والإنسان الفلسطيني فخور بطبعه لكونه فلسطيني

شب جديد وضبور

كعادة مغني الراب بدأ "شب جديد" بداية عادية بلقب آخر، برغبة حقيقية في كتابة ما يعبر به عن نفسه ولكن بدون يقين بقوة أو قيمة ما يكتبه فعلاً. بداياته تشابهت مع بدايات الكثيرين من مغنيّ الراب العربي. لكنه نجح بعد ذلك في صعود عتبات النجومية في ساحة الراب العربي ليكون أحد أبرز نجومه، ليس فقط للقيمة الفنية لما يقدمه، إنما لتميزه وتفرده وتعبيره عن أزمة الوجود العامة وغنائه بمنأى عن البكائيات والكربلائيات المعتادة عند الحديث عن القضية الفلسطينية.

بمقابلة له مع منصة (معازف) يقول "شب جديد":

"ليش ما منتمسكن؟ لأنه عيب الواحد يتمسكن، والإنسان الفلسطيني فخور بطبعه لكونه فلسطيني، يعني زمان كان الراب كله يتمحور حول القضية لأنه فش مجال لإشي تاني. ماحدش حيسمعك بس الأجانب حيدعموك لازم تعيط إحنا مش مضطرين نعيّط سيدي، هَيانا عيطناش ومشيت معانا".

ببساطة هكذا يرى الرجل نفسه، بلا بكائيات أو صور ميلودرامية عادية عن صراع الفلسطيني مع الاحتلال، يحيل القضية من عموميتها إلى خصوصيته، يتحدث عن استيقافه للعبور يومياً من الحاجز الذي يطوق منطقته "كفر عقب" ويمنعها عن البلد الواسع.

"بحب أخاطب الدودم، يعني شباب الورد، الشباب اللي هيك منظرهم (يشير إلى نفسه)، يعني اللي مش خريجين جامعات ومدارس والطبقة المتعلمة والمثقفة."

"الدود" بالعبرية تعني العم أو ابن العم، كلمة شائعة بين الفلسطينيين يطلقونها فيما بينهم.

"شب جديد" هو فلسطيني عمره 26 سنة، نائب مدير شركة "بلاتنم" التي أنشأها هو وأصدقائه "الناظر" و"شب موري" ليضعوا تحتها كل إنتاجهم الفني إيماناً منهم بالعمل المنظم ولاعتماد "شب جديد" علی غناء الراب كمهنة يكسب منها المال.

في حواره مع محطة 24 Fm يقول "شب جديد": أنا مش فنان، أنا طابعة". يحلّق مبتعداً عن الصورة النمطية للفنان، يقول إنه آخر من يمكن أن يعتبر نفسه "رابر". فالأفكار تأتي وهو خارج الوعي، فيكتبها ويغنيها. وهكذا بكل بساطة يؤكد ابتعاده عن الصورة الرسمية للفنان في العالم العربي، بعدما فارقها بمفرداته البذيئة لسب الاحتلال وأمريكا وكل خائن.

مقابلة شب جديد مع معازف

ربما في نظر "شب جديد" أن كل ما يقوم به أمر عادي، لكن بالنظر لقاعدته الجماهيرية وطريقته التي ساهمت في فتح آفاق الشباب ومنحهم القدرة علی التواصل مع جذور القضية الفلسطينية والتعريف بأصحابها وأحوالهم من جديد، بعدما اقتلع الإعلام العربي الرسمي الكثير من جذور القضية في الوجدان العربي، فإن ما يقوم به "شب جديد" غير عادي. لم تعد تعرف إسرائيل بـ"الكيان الصهيوني" واحتلاله تحول لتواجد معترف به كدولة راسخة في قلب المنطقة. لذا نراه في نظر محبيه سفيراً للقضية، حتی وإن رفض هو نفسه هذا التصوير الدرامي. بالنسبة للفلسطينيين فإن المقاومة شيء عادي، من الطبيعي أن تقاوم حتی لا تموت مكللاً بالعار، أو لأنه ليس من الطبيعي ألا تقاوم. بالنسبة للعالم المقاومة فعل بطولي، سب الاحتلال وهو يغتصب أرضك فعل يمكنه قتلك أو الزج بك في السجن، لذا هو بطولي. كلها أشياء غير عادية في نظر من لا يرون أن كتابة الأغنية للتعبير عن قيمة الذات ومقاومة أفعال الاحتلال شيء عادي!

"دموعي من عيني تنزف، تسري على جبيني

لو بعرف إنك حاملة كثير الله يسامحك لو خبرتيني

والشعب العربي المق**، برضو على جبيني

والرؤساء العرب القادة الصح بس اغلبك فيزا أعطيني"

  • شب جديد، تراك "أمريكا"

تحيلنا نظرة عدي أو "شب جديد" لنفسه بأنه ليس مغني راب ولا فناناً وأنه لا يفهم في قواعد النحو والصرف وأنه شاب توقف تعليمه عن المرحلة الثانوية، يحيلنا كل هذا للنظر عن كثب في إنتاجه الفني، اعتماده على القافية والمفردات المركبة وبذاءة حديثه حينما يتحدث عن حياته اليومية.

في حوار سابق مع صحيفة "الجارديان" البريطانية رد "شب جديد" على السؤال النمطي الذي وجهه له الصحفي عن طابع أغنية "كحل وعتمة" التي يسرد فيها تعسف قوات الاحتلال تجاهه يومياً هو وسكان بلدته حينما يمرون من الحاجز، رد شب على السؤال بسؤال، بطريقة ندية جداً: كيف تشعر أنت بالعيش تحت الاحتلال؟

"لقد وُلدت هنا.. تعودنا على ذلك.. يمكن للجنود الإسرائيليين القدوم هنا، والبدء في إطلاق النار، ولن نوقف المقابلة حتى.. الأمر مثل حركة مرور مكدّسة في لندن.. الأمر مزعج للغاية، لكننا لا نسأل: ما شعورك عندما تعيش في حركة مرور مكدّسة؟".

هكذا يرفض الفريق متمثلاً في نجمه المفوه "شب جديد" كل الطرق اللازمة للانتشار عالمياً من الخضوع للمعايير وعدم سب الاحتلال والحديث وهم منكسو الرأس وكأنهم ليسوا أصحاب حق، هم يعرفون أن الخضوع لن يمنحهم إلا خسارة قيمتهم أمام أنفسهم؛ لذلك هو يرون أنفسهم في مواجهة الاحتلال في كل لقطة، ولكن بلا خوف.

"كفر عقب" هي مدينة شب، منطقة عشوائية معزولة بسور يتطلب عبوره التعرض لمضايقات جيش الاحتلال، بالنسبة لبلاتنم هم فلسطينيون بالقضية وبغيرها، هم أصحاب الأرض الأصليون يشتركون في ذلك مع كل أهالي فلسطين، يمنحهم هذا القدرة على التعبير عن الهم العام، مشكلاتهم اليومية وهمومهم، لا يمنحهم البكاء من بطش الاحتلال أي شيء، ولكن سبه ولعنه هو ما يمنحهم القدرة على الاستمرار، يمنحهم الحديث الغاضب عن تعطيل قوات الاحتلال الصهيوني لهم قدرة على المقاومة، وبلا رغبة حقيقية يمكنهم هذا من تعريف حقيقة واقعهم المعاش لملايين العرب، كل هذا في أكثر من نطاق، بالكتابة، بالموسيقى، بالفيديو، يمنحهم انتشار الراب والرغبة في ممارسته قدرة على تحمل الصعاب.

ما الفرق بين شب جديد وويجز؟

يمكننا أن نعقد المقارنات الفنية بين نجوم مصر ونجوم فلسطين في فن الراب. رغم استمرار أغلب أصحاب الموجة الأولى للراب في مصر في الغناء ووجودهم في قمة قوائم أكثر مغني الهيب هوب استماعاً في الوطن العربي أمثال "الجوكر"، "شاهين"، "أبيوسف" مما يعطي الراب المصري تاريخاً من المفترض أن يثري قيمة هذا الفن، أو أصحاب الموجة الجديدة أمثال "مروان بابلو"، "ويجز"، لكن يحلينا هذا النجاح والانتشار الكبير لعقد مقارنة فنية وتقديم نقد فني واضح على الأقل من وجهة نظر مستمع ومحب للراب.

بالرغم من كتابة الثنائي لنفس الفئة العمرية والاجتماعية، وأن كُلاً منهما يفترض أن يكتب عن هموم ومشاغل مستمعيه، ولكن قضايا "شب جديد" هي الأقوى والأبرز، يكتب "شب جديد" عن خضم المعارك بينما يكتب "ويجز" عن قشورها.

بالنظر لقيمة ما يقدمه "ويجز" و"شب جديد"، فإن مقارنة كتابة الاثنين للأغاني تمنح "شب جديد" الأفضلية، بالرغم من كتابة الثنائي لنفس الفئة العمرية والاجتماعية، وأن كُلاً منهما يفترض أن يكتب عن هموم ومشاغل مستمعيه، ولكن قضايا "شب جديد" هي الأقوى والأبرز، يكتب "شب جديد" عن خضم المعارك بينما يكتب "ويجز" عن قشورها. بالطبع ليست المشكلة عدم وجود هموم مصرية يمكن الكتابة عنه أو عدم وجود قضايا كبری تشغل الشباب المصري. ولكن الأمر يتمثل في القدرة على التعبير عنها أو الإمكانية التي تبدو غائبة عن كل الفنون المصرية تقريباً، بينما يحكي شب الفلسطيني عن معركة العيش في خضم الملل، الحرب، الإفلاس، صعوبة عبور الحاجز والتعرض للإيقاف أو القصف بلا سبب!

تنبع الاختلافات والفروق الجوهرية بين قيمة محتوى الرجلين في نوع الموسيقى أيضاً، فبينما يلجأ ويجز للموسيقى الإلكترونية حصراً تقريباً، تتنوع الموسيقى التي يلعبها "الناظر" المنتج الموسيقي لشركة "بلاتنم" والمنتج الأول لأغاني "شب جديد" التي تتنوع أدواتها لتشمل الأدوات الشرقية في كثير من الأحيان ومن ثم وبطريقة غير مباشرة تتجه نحو صبغ ما يقدم بفلسطين نفسها.

هكذا يحمل الفنان همَّه وهمَّ محبيه، يقدم قضيته للعالم، بفخر وتحدٍّ، ويثبت أنه يمكن فعل ذلك وهو يرقص ويغني، وهو يتسلى، بينما تتغلغل القضية فيه، لأننا ما زلنا هنا ومازال بالإمكان أفضل مما كان. فما أفسده الساسة، يمكن أن يصلحه الغناء.

أما "ضبور" فهو أحدث المنضمين لـ"بلاتنم"، رابر صاعد عمره 20 سنة فقط صدر له مؤخراً أغنيتان "إن أنّ" و"الشيخ جرّاح" بالتعاون مع "شب جديد"، وقد صدرتا بالتزامن مع تصاعد الأحداث الأخيرة في فلسطين، لا يختلف "ضبور" كثيراً عن "شب جديد"، نفس الخلفية الاجتماعية والثقافية تقريباً ونفس التوجه الغنائي في محاربة الاحتلال، ولاقت "إن أنّ" نجاحاً باهراً ورواجاً كبيراً.

"اهدى

ما هو كل شي باين في المحنة

الله بيشهد مين إحنا

رجالة دم نطرطشلك

بوم ضرب حرب الليلة ما بنغلب

بدك جبال وعادي بنهدلك

مرحب فيك في أولاد القدس

بندبر حالنا نحل اللغز"

  • من كلمات أغنية "إن أنَ"

في الأخير يبدو الفن متمثلاً في قيمة ما يطرحه من قضايا، ليس فقط في كونه جيداً أو ممتعاً. ويتخطی فن الراب الفلسطيني كونه مجرد موجة موسيقية لموجة وعي ضخمة تضع فلسطين في مركز العالم. موجة تغرس في نفوس راكبيها القضية المركزية للأمة. هكذا يحمل الفنان همَّه وهمَّ محبيه، يقدم قضيته للعالم، بفخر وتحدٍّ، ويثبت أنه يمكن فعل ذلك وهو يرقص ويغني، وهو يتسلى، بينما تتغلغل القضية فيه، لأننا ما زلنا هنا ومازال بالإمكان أفضل مما كان. فما أفسده الساسة، يمكن أن يصلحه الغناء.

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
سيد عبدالحميد
كاتب مقالات وقصص قصيرة
كاتب مقالات وقصص قصيرة
تحميل المزيد