في أنمي "ون بيس" أُلقي القبض على ملك القراصنة غولد دي روجر من طرف البحرية. لقد كان من أكثر المطلوبين من طرفها، لأنه قد تمكن من معرفة التاريخ الذي تُخفيه حكومة العالم عن الشعوب.
في الحقيقة، لم يتمكنوا من إلقاء القبض عليه، بل هو من سلَّم نفسه، ليُفجِّر العصر الذهبي للقراصنة، ليتمكن المميزون من الشعوب من معرفة حقيقة العالم ومن يقف خلف إخفائها.
فحين حان وقت إعدامه، اجتمع الناس حول منصة الإعدام، فأعلن للحشد أن هناك كنزاً سماه "ون بيس". ولأنه ملك القراصنة وأشهر شخص في العالم (داخل الأنمي) فقد صدَّق الجميع كلامه. وهكذا انطلق الشباب في البحر كقراصنة للوصول إلى الكنز الذي أعلن عنه روجر، فكان إعدامه بالنسبة لحكومة العالم أسوأ مما كان عليه حين كان قرصاناً حراً، فقد حفَّز الشباب ليكونوا قراصنة، وانطلقوا إلى حيث توجد القطعة التي تحمل التاريخ المهم الذي تُخفي حكومة العالم تفاصيله، وهكذا، امتلأت البحار بالقراصنة. فأصبح البحر ذاك المجال الذي قال عنه هيغل في كتابه العقل في التاريخ "اللامتناهي الذي يُعلِّم الحرية والشجاعة والحكمة".
في عالمنا الحقيقي، هناك مجال كالبحر، إنه مجال الراب، الفن الذي يحمل في طيَّاته بذوراً للتمرّد، الأرض الهامشية التي تساهم في إثارة السرد المخفي، إنها آلة الحرب التي تضرب بمهل في أسس السلطة السياسية القهرية. إنه العالم المتشرد الذي يجمع أبناء الشعب المقهور ليُعبروا عن همومهم، ويتمردوا بطريقة غير منظمة ضد السلطة القاهرة.
إنني أعتبر فن الراب حاملاً لقوة ثورية خفية تعمل بتدرج تحت السطح، ولكن تأثيرها عميق في وعي الشباب مهما حدث، ولن ننكر دوره في بناء الوعي التمردي في الشباب الآني (إنها امتداد للظاهرة الغيوانية)، إن كان فنانو الراب قراصنة، فأيضاً يمكن اعتبارهم رحَّلاً بلغة جيل دولوز، الذي يعتبر أن هناك فئات تمردية هامشية، تتمرد وتنتقد السلطة التقعيدية، بدون أن يكون لها مشروع حول المجتمع الذي سيكون بعد سقوط هذه السلطة أو النظام.
إنها فئات تخترع خطوط الهروب لتجاوز سلطة النظام القهرية وهدمها بطريقة سلسة، فهذه الفئات لا تعرف الاستقرار، مثلها مثل الرُّحل، ليس لهم وطن أيديولوجي له مشروع بديل ضد السلطة، وإنما هم يقومون بثورية بطريقة هامشية ضد النظام القائم، ولأن هذه الفئات الهامشية التمردية ليس لها مشروع اجتماعي أو اقتصادي ثوري، لا تبالي لها السلطة السياسية القهرية، وهنا تكمن قوتها، فهي تعمل على تقويض السلطة بسلاسة بدون ثورة دموية، عكس ما تسعى له بعض الأيديولوجيات (حسب دولوز دائماً)، إن الراب كالجذمور (بمفهوم دولوز) الذي ينفصل عن الجذر دون أن يقضي على النبتة، فهو الحامل لهَمِّ النبتة لكن لا يرضى بأن يكون مرتبطاً بالجذر، وهذا ما يُساهم في نموها، إذاً، ينعت دولوز الفئات الثورية اللامصنفة بأيديولوجية ما، بالرُّحل، الذين لا يعرفون الاستقرار والذين لا يتأصلون بأرض معينة (خطاب معين)، بل كل أرض موطن لهم، بشرط أن يكون خَطّاً للهروب من السلطة التقعيدية، وهكذا فهم حقاً يهددون الحضارة التي تحصر وجودها بسرد كبير واحد.
إذاً مع دولوز هناك سقوط للسرديات الكبرى (بتعبير ليوتارد)، أي ليس من حق أية أيديولوجية أن تعتبر نفسها القائمة الوحيدة والمحتكرة للتغيير، بل يعتبر أن هذه الأيديولوجيات لا تُغيِّر شيئاً رغم الكوارث الدموية التي تنتجها بعملها الثوري، فهي لا تعوض نظاماً سلطوياً إلا بنظام سلطوي أسوأ. لهذا يضع دولوز التغيير على عاتق الرُّحل، الذين ليس لهم خطاب دوغمائي لتجميع الحشد، ولا يعتمدون العنف الثوري للتغيير، ولا يحملون مشروعاً بديلاً، وإنما هدفهم هو التعبير بحرية وتمرد، ومع ذلك ستكون النتيجة أكثر مما يتصورون.
وهكذا، نجد أن الراب، يملك في جوفه رُحلاً يهددون النظام بتمردهم غير المنظم، الذي لا يسعى إلى مجتمع أفضل، بل يحملون خطاباً شعبياً مقهوراً وعفوياً، لا مثل أعلى له، ولا سعادة مستقبلية يسعى لها. إنه ينشر الترحال في عقل الجماهير، التي ستتحول من حياة الاستقرار إلى حياة البدو، التي لا تعرف نقطة المرجع. فالبدو ينطلقون كالقراصنة بين السهول والجبال مهددين حياة البذخ والترف. بالطبع –كما قال دولوز- الرحل كآلة الحرب، أو كقنبلة مدفع التي تسقط في مكان لا تعرف كيف هو، وحين تسقط يتبدَّل المكان من حولها بدون أن يكون لذلك خطة مسبقة. وبالتالي فالراب آلة الحرب التي تُساهم في تغيير المكان من حولها بدون أن تدري.