الأحداث التي تقع في الأراضي المقدسة في فلسطين دفعتني إلى محاولة إعادة التفكير في علاقة المثقف بالتحرر الوطني.
يتحدث نغوجي في كتابه "تصفية استعمار العقل" عمّا يسمى التراث المقاوم، الذي يشكله العمال من بروليتاريا وفلاحين بمساعدة البرجوازيين (الطلبة الوطنيين، والمثقفين الوطنيين)، والجنود، والعناصر التقدمية من الطبقة الوسطى الصغيرة، هذا كله يؤسس للمقاومة التي تتجلى في "دفاعهم الوطني عن الجذور الفلاحية- العمالية للثقافات الوطنية، وفي دفاعهم عن النضال الديمقراطي لكل القوميات التي تسكن المنطقة ذاتها. وكل ضربة توجه إلى الاستعمار، مهما كانت الأصول الإثنية والمحلية للضربة، فإنها انتصار لكل العناصر المناهضة للاستعمار في القوميات كلها. والحصيلة النهائية لكل هذه الضربات، مهما كان وزنها وحجمها ونطاقها ومكانها وزمانها، هي التي تشكل التراث الوطني".
والمثقف (أو الخزان الأيديولوجي) يلعب دوراً أساسياً في قضية التحرر الوطني، فهو الذي يحاول تفكيك ونقد الخطاب الاستعماري، الذي يقوم بالأساس على نظام معرفي، تتخفى فيه القوة أو السلطة بمفهومها الفوكوي أو إرادة القوة بالمعنى النتشوي، والتي ترمي إلى طمس موضوع الواقع، وإعادة إنتاجه إنتاجاً تثرى فيه السلطة وتتخفى فيه المؤسسة، وهنا سوف نتحدث عن مثقف كرّس كل حياته لنقد الخطاب الاستعماري (المعرفة الاستعمارية)، وهو المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد، الذي قام بتفكيك وتعرية الخطاب الاستعماري في كتابه الموسوم بـ"الاستشراق"، وقد استطاع بحق أن يفكك ويعري المعرفة الاستشراقية الغربية، وذلك بالاعتماد على مناهج وأفكار تنتمي إلى الغرب نفسه، وخصوصاً أفكار فترة ما بعد الحداثة، إدوارد سعيد يشكل خليطاً من الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو (من خلال مفهوم الخطاب)، وغرامشي (من خلال مفهومي المجتمع المدني والمجتمع السياسي)، لذلك إدوارد سعيد يمثل نموذجاً للمثقف العضوي، الذي يلعب دوراً أساسياً في محاولة التحرر الوطني.
وفي الطريق نحو التحرر الوطني، على "الطبقات التي تكافح الاستعمار حتى في مرحلة وشكل النيوكولونيالزم أن تواجه هذا التهديد بثقافة النضال الحازم، هذه الثقافة الأرقى والأكثر إبداعاً على هذه الطبقات أن تستخدم بمضاء أشد الأسلحة النضالية المتضمنة في ثقافاتها. عليها أن تتكلم بلغة النضال الموحدة المتضمنة في أي لغة من لغاتها، عليها أن تكتشف ألسنتها المتنوعة كي تغني أغنية: الشعب الموحد لن يهزم"، إن على المثقف أن يعتمد على لغته القومية لبناء الوعي لدى الجماهير، فلا يمكن مثلاً أن يكتب بالإنجليزية أو الفرنسية وينتظر أن يصل فكره للطبقات المسحوقة في المجتمع، لهذا فإن وسيلة التواصل بين المرسِل (المثقف) والمرسَل إليه (الشعب) هو اللغة القومية، وهكذا فإن اللغة تصبح ليس فقط "مجرد أداة للفكر، بل هي أيضاً القالب الذي يتشكل فيه الفكر"، لذلك على دعاة التحرر الكتابة بلغة قومهم لكي يصنعوا الوعي، وبالوعي تُحرر الأوطان.
علاوة على ذلك، يقول فانون في كتابه "معذبو الأرض": "إن على البرجوازية الوطنية الصادقة في البلد المتخلف أن تفرض على نفسها خيانة المهمة التي كانت ميسرة لها، وأن تدخل مدرسة الشعب، أي أن تضع تحت تصرف الشعب الرأسمال الثقافي والتقني الذي استطاعت أن تنتزعه حين مرورها بجامعات الاستعمار"، كما أن على البورجوازية الوطنية الصادقة (مثقفين، وأصحاب رأسمال…) أن يحاولوا إنتاج معرفة وطنية، تجعل من مشاكل شعوبهم محوراً لدراستها، وهذا لا يتحقق إلا بإنشاء مؤسسات بحثية وطنية (جامعات ومعاهد ومراكز أبحاث…).
وفي النهاية، نستحضر كلمة للمناضل الهندي المهاتما غاندي يقول فيها: "أملي أن تهبّ جميع الثقافات بمحاذاة منزلي وبأكبر قدر ممكن، لكنني أرفض أن تسلخني أي منها عن جذوري".
المراجع
- نغوجي واثيونغو، "تصفية استعمار العقل"، ترجمة: سعدي يوسف، الطبعة الأولى، (دار التكوين، دمشق- سوريا، 2011)، ص17.
- سالم يفوت، "حفريات الاستشراق: في نقد العقل الاستشراقي"، الطبعة الأولى، (المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، 1989)، ص10.
- محمد عابد الجابري، "نقد العقل العربي: تكوين العقل العربي"، الطبعة الرابعة، (المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، 1991)، ص77.
- فرانز فانون، "معذبو الأرض"، الطبعة الثانية، (مدارات للأبحاث والنشر، القاهرة، 2015)، ص125.
- المهدي المنجرة، "قيمة القيم"، الطبعة الثانية، (الرباط، 2006)، ص 100.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.