بعد آب 2020، آب التطبيع الإماراتي مع الاحتلال، بدأ الخطاب العربي حول القضية الفلسطينية يتميع، ورأينا نماذج من شعوب بدت غريبة علينا وإن كان انتماؤنا القومي -حسب اعتقادنا- واحداً، شعوب تغني للاحتلال وتمجده، تأخذ صوراً في أحضانه، تضم علمه إلى قلبها، وتعلم أطفالها أنه الصديق لا العدو، والحبيب لا الكاره، تنتج مسلسلات لأجله، ثم تنشر ذلك على عيون الأشهاد دون حياء أو مواربة، ولأول مرة رأينا انقساماً كبيراً بذاك الحجم حول الانتماء للقضية من عدمه، وعلا وقتها الصوت الذي يقول "فلسطين ليست قضيتي"، ومعه كبرت دهشتنا من واقعنا الذي تغير هكذا فجأة.. نحن الذين كبرنا بيقيننا التام أن "فلسطين قضيتنا جميعاً".. من أين خرج هؤلاء علينا؟!
وقتها بدأ مؤشر هذا التمييع يتحرك كالبندول، يشير كل ثانية لمكان جديد نتوقع منه نحن المتابعين صفقة أو صفعة جديدة من الذل، ولم يخب ظننا كثيراً للأسف!
حين تكون الإمارات هي المطبع، وهي المروِّج لهذا التطبيع، فنظرتنا القلقة حول مستقبل القضية "ربما" ستكون مبررة.. نعم كنت قلقة جداً، خفت من رد فعل الأجيال الجديدة، أجيال التيك توك، والببجي، الأجيال التي كانت تبدو لي وقتها أشبه بورقة بيضاء يمكن للإعلام الموجه أن يكتب عليها ما يشاء، فكيف وهو صاحب منصة إعلامية كبيرة تستقطب الشباب أكثر من غيرها كالـ"mbc"!
كان التطبيع إنذاراً باندثار قضيتنا تماماً على محطاتها، بل وإيعازاً ببدء جولة تزييف الحقائق وقلبها، جعل صاحب الحق مغتصباً، وتمكين المغتصب الحقيقي منه.
والجيل الجديد! الجيل الذي بدا مغيباً تماماً عن حقيقة الاحتلال ووجوده أصلاً! إلى أين ستأخذه توجهاته؟! ما مصير القضية حين يؤول الأمر إليه؟! نعم، خفت، أكلني قلقي وأنا أرى صوت المطبعين، واللامبالين يعلو، وصوت القضية التي لطالما آمنّا بها يتردد على استحياء!
هل سيغني الجيل الجديد "خذني زيارة لتل أبيب" بدلاً من "إلى فلسطين خذوني معكم"؟!
من آب 2020 إلى أيار 2021 ما الذي حدث؟!
أيار الذي ارتبط عندنا طوال 72 عاماً بالنكبة، ينتفض على ذاته هذه المرة، يأتي لينسف ما زرعه آب داخلنا، ليأكل قلقنا وخوفنا، ويعيد ترتيب الأولويات والحقائق، ويعيد الظالم ومناصريه إلى موقعهم الحقيقي.
الجيل الجديد الذي راهن عليه المطبعون، الجيل الذي حاولوا تهجينه وتدجينه ورسموا عليه آمالهم وأحلامهم في قتل قضيتنا، تمييعها في قلبه، وإنهاء وجودها، هو ذاته الذي وقف على أعتاب الأقصى، ورابط داخله ليالي ليمنع الصهاينة من تدنيسه واقتحامه.
الجيل الجديد -جيل العشرينات- هو ذاته الذي أكل الطريق إلى الحدود بين أراضينا الأردنية وأراضينا المحتلة بأقدامه، ووقف ليقول: نحن مع قضيتنا، نحن فداؤها.. نحن أوعى مما تعتقدون!
الجيل الجديد هو الذي يكتسح الآن السوشيال ميديا، ينادي ويناصر غزة وأبطالها دون كلل أو ملل، يعرِّف العالم بما يجري، ويسند المرابطين، يقول لهم: نحن معكم، فلسطينكم فلسطيننا، حيَّةٌ دائماً في صدورنا.
أيارنا هذا، الذي رفض أن يكون هذه المرة أيار نكبة، أعاد للعرب مشاعر الانتفاضة، أحيا داخلهم الإيمان بالمقاومة التي أعادت لمَّ شملهم كما لمَّت شمل الفلسطينيين، وحّد كلمة الشعوب، ورفعها وحدها عالياً.
تُجمِعُ الشعوب -الشعوب وحدها- على المقاومة، على خيارها، تنزرع فكرتها في قلوب الأجيال، يعود للعمل الميداني المقاوم مكانته، يحمل على كتفيه العزة والفخر إلى القلوب المؤمنة به، يقوِّض أسطورة الجيش الذي لا يُهزم؛ فتسقط أحلام التطبيع، وتنخذل آمال الخونة والمنافقين، وتتهاوى الادعاءات المخزية التي قضوا عمراً يروجون لها "فلسطين خاصة بالفلسطينيين" تبدو فلسطين الآن -وأكثر من أي وقت مضى- خاصة بنا كلنا.. كل المسلمين، كل الأحرار والشرفاء حول العالم.
المجتمع الغربي اليوم تجتاحه صحوة جديدة، يتعرف على قضيتنا من جديد، يتعاطى معها بأسلوب مختلف، يتظاهر لأجلها رغماً عن أنف سياسييه، شيكاغو، باريس، برلين…
صورة الاحتلال الملمعة التي كانت تُصدَّر لهم، تعايشه مع أهالينا في الداخل المحتل، مظلوميته.. كلها بدأت تتهاوى رويداً رويداً في الغرب، القصة الآن تنفض عن نفسها التحريف، يسمعها الكثيرون لأول مرة بالرواية الحقيقية.
العالم أجمع يبلور قوة إسناد من الرأي العام للحق الفلسطيني مبنية على وعي شبابنا رواد السوشيال ميديا الذين طوَّروا قدراتهم وطرق تواصلهم، وخطابهم الواعي للعقل بمفاهيم وصياغة جديدة.
أيار يربي أجيالاً جديدة تعرف قضيتها وقوميتها جيداً، وتحدد على أساس ذلك انتماءها، أيار 2021 قتل آبَهم، أخفت صوت المطبعين، ووحده صوت القضية يطال الآن عنان السماء.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.