انتفضت وسائل التواصل الاجتماعي بجموع ضخمة من المصريين مُعبرةً عن رفضها وتضامنها مع فلسطين، في ظل اقتحامات قوات الاحتلال برفقة مستوطنين للمسجد الأقصى واعتداءات على المرابطين فيه، ناهيك عن الغضب العارم من الغارات التي تقصف قطاع غزة المحاصر.
بالتوازي، يجري شعور بالفرح والنصر بصواريخ المقاومة الممطرة للمستوطنات وتل أبيب والقدس المحتلة وغيرها من مدن الداخل الفلسطيني المحتل. هذا التفاعل له سياقٌ مُقاوم، تاريخيّ غالباً، ديني واجتماعي أيضاً؛ بدايةً من مُشاركة مصر في حرب فلسطين عام 1948، مروراً بالحرب المباشرة بين مصر والكيان الصهيوني، في عامَيْ 1967 و1973.
لكن، تلك التفاعلات، كَثُرت أم قلّت، لا تُعبّر عن كافة الشعب المصري، بل هي تعبّر عن اجتماعٍ وسط العديد من الاجتماعات المصريّة، الرسمية وغير الرسميّة، التي تتبنّى سرديةً خاصّة بها تجاه القضية الفلسطينيّة. نحاول بإيجازٍ شديد التعرف على تلك الاجتماعات؟ وعمّ تتحدّث سردياتهم؟ وعلى أيّ أساسٍ كُوّنتْ تلك السرديات؟
السرديّة الرسميّة
يمتلك النظام المصري سرديّة تجاه القضية الفلسطينية، لكن لطالما مرّت تلك السردية بتحوّلات وتناقضات عدّة. بدأت السردية بمعاداة الاحتلال وهجرة اليهود من شتات العالم إلى الأراضي الفلسطينيّة، رغماً عن أهلها، فضلاً عن تهجيرهم القسريّ، بالإضافة إلى إخماد ثوراتهم وقتلهم واعتقالهم بواسطة عصابات الكيان الصهيوني برفقة القوات البريطانية المُحتلّة. وحتى بعد "نكبة 48″، ووقوع مصر في يد جمهورية الضباط الأحرار يوليو 1952، ظلّت سردية تحرير فلسطين مقابل العداء للكيان الصهيوني باقية، مرورا بالنكسة، وفقدان الأراضي المصريّة الشرقيّة في سيناء، ووصولاً إلى عبور خط بارليف عام 1973، وتحرير الأراضي المصرية مرّة أُخرى (باستثناء طابا).
بعد حرب أكتوبر، اتجه السادات إلى بدء مفاوضات السلام، والابتعاد عن جولات الحرب، والوقوف في صفِّ حلفاء الولايات المُتحدّة الأمريكية، إلى أن وُقّعت اتفاقية السلام مع إسرائيل (كامب ديفيد 1978-1979). من بعده، حافظ حسني مبارك على سرديّة "الحرب والسلام" أيّ أنّ الدولة المصرية خاضت الحروب المتواصلة مع إسرائيل، وساندت القضية الفلسطينية على مرّ العقود الفائتة، إلّا أن الحرب باتت لا تُجدي، والعصر أصبح عصر السلام، مع السعي لإيجاد تسويةٍ بين السلطة الفلسطينية والإسرائيلية.
بعد ثورة يناير 2011، وانتخاب أول رئيس مدني للجمهورية المصرية مُحمّد مرسي، تغيّر الخطاب الرسميّ، لم يتحوّل إلى عداء مباشر مع سلطات الاحتلال. لكن، كان خطاباً أكثر خشونة من الذي ساد لأكثر من ثلاثين عاماً، خطاباً يُدين ممارسات الاحتلال بحقّ شعب فلسطين، ويصرّح علانيةً أن الدولة المصرية لن تتركهم وحدهم فريسةً لهذا الاعتداء. تلك هي السنة الوحيدة التي كانت مصدر قلقٍ للنظام الإسرائيلي نتيجةً لنيّة تغيير سردية الودّ والسلام مع إسرائيل. بعد الانقلاب العسكري منتصف عام 2013، لم ترجع السردية المصرية للسلام الدافئ فقط، بل عُمّقت العلاقات بين النظامين وفقاً للمصالح المُشتركة التي جمعتهُما، وفي مقدمتها العداء للإخوان المسلمين، سواء في الداخل المصري، أو في الداخل الفلسطيني متمثلةً في حركة المقاومة حماس على أرض غزّة.
بلا شكٍّ، حشد كل نظامٍ أدواته المؤسسيّة المُتموّضعة في الخطابات الرسميّة: المؤسسات الدينيّة السنّية والقبطيّة، الأجهزة الإعلامية، الثقافية، الفنّية، وحتى الأمنيّة في تدعيم سرديّته أمام الجمهور المصري. اتسمّت تلك السرديات بديناميّاتها الدائمة، وهذا شيءٌ طبيعي، وفقاً للتغيير المُستمر للرؤساء والأنظمة المصريّة، وطبيعة الظرف الراهن، ورؤيتها وإدارتها للملفّات الداخلية والخارجية. لكن، مُنذ بداية التراجيديا الفلسطينيّة في عشرينيات القرن الماضي، لم تولد السردية النظاميّة وحدها، بل رافقها سرّديات لا رسميّة، تتجسّد في اجتماعات تنظيمية ولا تنظيميّة يمتلكها الشعب المصري.
الاجتماع الأبويّ
طالما صاحب سرديّة نظام ما بعد يوليو 1952 إلى وقتنا هذا فئة اجتماعيّة عُرفت بالأبويّة، لما اتسمتْ به من التزام تعاليم النظام العسكري في مصر، وتبنّي وترديد شعاراته في كلّ مرحلةٍ زمنية، بدايةً من مرحلة الحرب على العدوان وصولاً إلى الحرب على الإرهاب. تكوّنت تلك الفئة من الموظفين لا سيّما الكبار منهم في الأسلاك القضائيّة والأمنية والدبلوماسيّة، كبار المُلاك، ورجال الأعمال المُقربين من النظام، والذين ترعرعت ثرواتهم في عقود الأنظمة العسكرية المُتتاليّة، بالإضافة إلى الجيل الأكبر سناً ذي التعليم البسيط الذي وُلد وتربّى على ما تلقّنه الدولة له. تتجلّى تلك الفئة على الشاشات في الأعراس الانتخابيّة المصرية مؤخراً، والتي يعزف عن حضورها الكثير من الشباب المصريّ لفقدانهم الأمل السياسيّ. كانت تلك الفئة دائماً مصاحبة لِسردية النظام تجاه القضية الفلسطينيّة، من العداء والحرب مروراً بالسلام الدافئ وصولاً إلى التقارب والتعاون.
حزب الكنبة
يُكنى اللامُنتمون لأيّ أفكار أو تنظيمات في مصر بـ"حزب الكنبة"، وذلك لما يُعرف أنّهم الأغلبية الصامتة، التي لا تمتلك سردية معارضة أو تأييداً لنظام الدولة. ذلك الاجتماع يتكوّن من الطبقة الفقيرة، والمتوسطة مثل محدودي الدخل، صغار الموظفين، صغار التجار، أصحاب المحلات البسيطة، العمّال، البائعين المُتجوّلين، الشباب ذوي التعليم المتوسط والجامعي. تشترك تلك المكونات جميعها بابتعادها عن السياسة، وانشغالها بالبحث عن الصعود إلى الحياة الآمنة الكريمة، وتوفير لقمة العيش لهم ولأُسرهم، بعيداً عن قلق السياسة، ومعاداة وبطش النظام.
هذا ليس مفاده أنّهم مَعزولون عن أي تغيّرات، ربما قد حدثت أو سوف تحدث، بل على العكس تماماً، فذلك الاجتماع كان حاضراً وبقوّة في احتجاجات ثورة يناير وله كثيرٌ من الفضل في نجاح الثورة، وتحقيق مَطلبها الأول في إسقاط نظام حسني مبارك. لكن، سُرعان ما تنشغل تلك الفئة مرّة أُخرى بالبحث عن المَأمن المعيشي. لذلك تجدها مُتخبطة ويسهل تشكيل رأيها تجاه قضية كَالقضية الفلسطينيّة، فربما تتبنى سردية الدولة في حين، وفي حين آخر تتبنى سرديّة مقاومة وتحرير للأرض الفلسطينيّة، وغالباً لا تمتلك سردية ثابتة تجاه فلسطين.
الاجتماع الثقافي والفنّي
أما الاجتماع الثقافي الذي يتكوّن من الكُتاب والشعراء والفنّانين، فهو ينقسم، كل حسب مدى استقلاليّته الفكريّة، ومدى ولائه لما يؤمن به من قضايا التحرير، فَشعراء مثل أمل دنقل وأحمد فؤاد نجم وعبدالرحمن الأبنودي، ظلّوا يكتبون من أجل فلسطين ويهاجمون الكيان الصهيوني، حتى بعد اتفاقيّة السلام، بقي شعرهم مُقاوماً ومُسانداً للقضية الفلسطينيّة كما كانت من قبل.
أيضاً في حِقبة مبارك الدافئة، استمر الفنانون في إخراج الأغنيات والأفلام التي تُساند القضية الفسلطينيّة، وتُعادي الاستيطان وتُدين القتل والتهجير للشعب الفلسطينيّ؛ مثل أغنيتَي "شجرة الليمون" و"العمارة" للمطرب المصري محمد منير، وأوبريت الحلم العربي، وعدّة أغنيات للفنان هاني شاكر ومحمد فؤاد وتامر حسني وغيرهم الكثير. أما عن الأفلام، فَكثرت، من بينها "أصحاب ولا بزنس" و"ولاد العمّ" و"السفارة في العمارة".
في ظل النظام الحالي، انزوى المجال الثقافي والفنّي في رُكنٍ صامت تجاه قضية التحرير الفلسطينيّة، يرجع ذلك إلى سردية النظام الحاليّة التي تمنع بطرقٍ مختلفة، الكفاح الثقافي والتوعويّ تجاه قضايا التحرير، برهن النظام المصري على ذلك عند اعتقاله مشجعاً مصرياً في المُدرجات أثناء رفعه علم فلسطين عام 2019، خلال مباراة المنتخب المصري مع نظيره الجنوب إفريقيّ، فضلاً عن التطبيع الثقافي والفنّي الذي سلكه البعض من ذلك الاجتماع، ليواكب السردية الراهنة اللامُقاومة.
تظل النخبة الثقافية والفنّية في كفاحٍ مُستمر بشأن الوعي بقضايا التحرير، يتماشى هذا الكفاح أحياناً مع السردية النظامية، كما كان منذ ثلاثينيات القرن الماضي حتى اتفاقية كامب ديفيد أواخر السبعينيات، ويشتد على ذلك الاجتماع الكفاح حين تتغيّر سردية النظام تجاه تلك القضايا، فيبدأ العمل تحت وطأة المنع والمصادرة والعقاب والسجن.
الاجتماع الإسلامي
تمتلك الجماعات الدينيّة في مصر سواء الدعوية أو الحركية، ماكينة هائلة من المادّة البشريّة، يتماشى بعضها مع سرديّة النظام تجاه القضايا التحرريّة، مثل بعض الجماعات الدعويّة. أما الحركيّة السياسيّة، المُتمثّلة في الكثير، من أبرزها الجماعة الإسلاميّة، والإخوان المسلمون، فهؤلاء يمتلكون سرديّة ثابتة مقاومة تجاه القضية الفلسطينيّة.
منذ نشأة جماعة الإخوان المسلمين أواخر عشرينيات القرن الماضي، وهي حاضرة بمنهجيّتها ودعوتها في القلب الفلسطيني، فكان رجال الإخوان من ضمن من تطوّعوا وذهبوا للقتال عام النكبة الفلسطينية 48، قبل ذلك منتصف الأربعينيات، أسست جماعة الإخوان أوّل فرع فلسطينيٍّ لها، لتنتشر فروع الجماعة خلال أعوام بسيطة في كافة الأراضي الفلسطينيّة.
وثّق هذا الارتباط التنظيمي، سواء في نسخته القديمة التابعة مباشرةً تحت قيادة مكتب الإخوان بالقاهرة، أو حتى بميثاقها الجديد المُقاوم المتمثل في حركة حماس وذراعها العسكريّ، الارتباط المنهجي والفكري للإخوان المسلمين في مصر لتبنّي قضية تحرير فلسطين، وتربية وتنشئة الأجيال الجديدة المُنتمية للإخوان على الكفاح من أجل القضية الفلسطينيّة، بالإضافة إلى الأنشطة الخيرية والمظاهرات التي كانت تنظمها الجماعة في مصر للوقوف بجانب أهل غزّة الماكثين تحت الحصار والعدوان الصهيونيّ. هذا ما جعل الإدارة الإسرائيلية في أشدّ قلقها عند وصول رئيس من الإخوان لِحكم مصر إلى أن أُطيح به بواسطة الجيش المصري.
الاجتماع اليساريّ والليبرالي
منذ نشأة التيار اليساري في مصر مع مختلف أفكاره وروّاده وأسمائه، ساند القضية الفلسطينية، واعترف بحقّ الشعب الفلسطيني بالعودة إلى أراضيه المُهجّر منها قسراً وعنفاً. مرّ اليسار بمنعطفاتٍ شديدة مع الحكومات المصرية سواء أيام الملكية أو ما بعدها، لمع نجم حركة الاشتراكيين الثوريين مع بداية العقد الأول من الألفية الثانية، وهى من أوائل الداعين لثورة يناير عام 2011، ولديها الكثير من الرموز النبيلة في العمل السياسي والقانوني من أجل الكرامة والحقوق. وهى إلى الآن وسط جمود الحركات السياسيّة على أرض الواقع تقف بجوار القضية الفلسطينية عن طريق إصدار بيانات الإدانة للعدوان والإمبريالية الصهيوأمريكية المستمرة بكافة أشكالها بحقّ الشعب الفلسطيني.
كذلك التيار الليبرالي، رغم عدم وجوده على أرضية تنظيمية ثابتة وذات تأثير، لا سيّما من بعد قيام جمهورية الضباط الأحرار عام 1952. لكن، كان قبل ذلك متمثلاً في أحزاب كبيرة مثل حزب الوفد والأحرار الدستوريين القديم. وكان مُسانداً للقضية الفلسطينية في أوّل مأساتها، تماشياً مع مبادئ التحرير وسردية الدولة المصرية وقتها، عكس التيار اليساري والإسلامي ذوَي الصيت التاريخي القديم والحديث، والشعبية المُتجذّرة في الكثير من الاجتماعات المصريّة التي تنتمي إلى حقل الأفكار والسياسة.
جيل Z
هو الجيل الذي يبلغ عمره من 9 إلى 23 سنة، أي جيل يمرّ بالطفولة والمراهقة وبدايات الشباب والنضج، يقدرون بشكلٍ تقريبي بأقل من نصف سكان مصر في الوقت الحالي (أكثر من 40% من مجموع السكان). هذا الجيل قيد التعليم والتنشئة، يختلف هذا الجيل في رؤيته لقضايا التحرر والثورة، ومنها القضية الفلسطينية، حسب ما تربّى عليه، وما عوّدته عليه بيئته الاجتماعية والفكرية التي ينتمي إليها، ربما يتشرّب قضايا التحرير لانتمائه الأسري للتنظيمات الفكرية والسياسية، ربما يكون مردداً مستقبلياً لسرديّة نظام الدولة، أو حتى ضمن كتلة الكنبة الصامتة. في الغالب يتحسّر البعض على هذا الجيل نظراً لنشأته في فضاء ثقافي وسياسيّ مُأمّم بقيد السلطة الحديديّ، مع بزوغ نظام التفاهة، واستراتيجيّة الفراغ، كذلك تيه بوصلة الثقافة والوعي وسط مُغريات التكنولوجيا والأسواق الحرّة لنيل الشهرة والمال بأقصر الطرق.
القضية الفلسطينيّة لا تُرى من قِبل النظام/المجتمع المصري بعينٍ واحدة، بل رؤية النظام لها ديناميّة باستمرار، وعين الاجتماعات المصرية المُتبانية في النشأة والانتماء والمخزون الثقافي والعمل والحديث لها رؤية مختلفة تجاه كلّ القضايا المحورية للشعوب العربية والإسلاميّة.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.