استطاعت الحركة الصهيونية تنفيذ مشروعها القاضي بإقامة دولة لليهود في فلسطين، ليس بفضل جهودها الذاتية، فقط، بجلب اليهود للاستيطان، وبإقامة المؤسسات اللازمة لنشوء الدولة (الاقتصادية والتعليمية والمالية والعسكرية)، وإنما، أيضاً، بفضل المعطيات العربية والدولية المواتية لها، لاسيما بفضل دعم الدول الكبرى لها، وفي المقدمة منها بريطانيا، التي كانت منتدبة على فلسطين، ثم الولايات المتحدة الأمريكية.
وعلى العموم فإن معظم الكتابات التي أرخت للنكبة كانت ركّزت على مسؤولية الحركة الصهيونية، وكيانها إسرائيل، وعلى دور الدول الغربية، لكنها سكتت، أو تغاضت، عن الأنظمة العربية التي لعبت أدواراً كبيرة في حصول النكبة، واستمرارها، وإعادة إنتاجها على نحو ما نشهده اليوم في واقعنا العربي.
أول ما يمكن ملاحظته في ما يخص هذا الموضوع هو التمييز الفجّ بين القضية وشعبها، وهو تمييز من عمر النكبة ذاتها، إذ حرصت الأنظمة السائدة، في أغلب الأحوال، على إبداء التمسّك بقضية فلسطين، وادعاء رفض وجود إسرائيل، في حين أنها تعاملت مع الفلسطينيين، أي الضحية، بازدراء، وأقله بلا مبالاة إزاء معاناتهم، معتبرة إياهم مجرد عبء أمني أو ديموغرافي. بيد أن هذه الفجوة كانت في الشكل فقط، لأن الأنظمة المعنيّة تعاملت مع قضية فلسطين بطريقة استخدامية، أيضاً، أي لمجرد الاستهلاك واكتساب الشرعية والتهرّب من المطالبات الشعبية الداخلية، ولأغراض المزايدة والابتزاز على الصعيد الإقليمي، أي إن تلك القضية كانت مجالاً للتلاعب والتوظيف، وللتغطية على تغول الدولة الأمنية، وترسّخ الدولة السلطوية، وغياب الحريات والديمقراطية والتنمية في الواقع العربي.
وثاني ما يمكن ملاحظته في الرواية الرسمية عن النكبة، وهي رواية تحجب أكثر مما تظهر، أنها تحاول النفخ في مسعى النظام العربي لمنع قيام دولة إسرائيل (1948)، من خلال الترويج لأسطورة الجيوش العربية التي دخلت إلى فلسطين، بناء على قرار من جامعة الدولة العربية، آنذاك. وفي الحقيقة، فإن النظام العربي كان اشتغل وقتها على فرض الوصاية على الفلسطينيين، وإضعاف قيادتهم الوطنية، كما لم يسمح بإمدادهم بالسلاح، الذي يمكنهم من التصدي للعصابات الصهيونية. هكذا اشتهرت جملة "ماكو أوامر" التي صدت بها القيادة العربية مطالب الفلسطينيين بالتسلح، والتي كانت ألقيت على مسامع الشهيد عبدالقادر الحسيني، الذي غادر دمشق، وقتها، غاضباً، وعاد إلى فلسطين، حيث استشهد في القسطل. أما اعتبار قصة الجيوش العربية أسطورة، فهو لا يقلل من شأنها، ولا من شأن المجندين الشهداء الذين قضوا دفاعاً عن أرض فلسطين، وإنما يضع هذا الأمر في إطاره الحقيقي. ومعلوم أن هذه "الجيوش" لم يزد تعدادها عن 60 ألف جندي، كانوا يفتقدون للقيادة الواحدة، وللسلاح المناسب، في حين بلغ تعداد القوات الصهيونية حوالي 80 ألف مقاتل، من مجموع المستوطنين اليهود الذين كانوا في فلسطين (1948) والذين بلغ تعدادهم وقتها حوالي 650 ألف مستوطن فقط. وحتى إذا تجاوزنا قصة العدد فإن هذه الجيوش أسهمت في تفريغ بعض المدن والقرى من سكانها الفلسطينيين، بحجة حمايتهم، وبدعوى أن مناطقهم باتت بمثابة منطقة عمليات عسكرية!
الملاحظة الثالثة، تتعلق بالدور العربي في إعاقة قيام كيان سياسي للفلسطينيين، إذ كانت جامعة الدول العربية ردت طلباً للقيادة الفلسطينية للإعلان عن قيام الدولة الفلسطينية بعد انتهاء الانتداب البريطاني على فلسطين. بعد ذلك وفي إطار محاولات التملص من تبعات قضية فلسطين، خضع موضوع الكيانية الفلسطينية للتجاذبات العربية، حين حاولت جامعة الدول العربية، استجابة لمطلب الهيئة العربية العليا، الموافقة على قيام حكومة فلسطينية، ولكن ردود فعل البعض أجهضت من جديد هذه المحاولة، وتم بدلاً عنها إنشاء إدارة مدنية في يوليو/تموز 1948، أي بعد النكبة بشهرين، ليتم في أواخر أيلول، التوافق على قيام "حكومة عموم فلسطين"، بعد أشهر من حصول النكبة ونجاح الحركة الصهيونية بالاستيلاء على أكثر من ثلثي فلسطين، وتشريد حوالي 800 ألف فلسطيني. بهذا المعنى فإن النظام العربي أجهض إمكان تبلور كيان سياسي فلسطيني، لاسيما أن قطاع غزة أُلحق بالإدارة المصرية، في حين تم ضم الضفة الغربية إلى إمارة شرق الأردن لتشكيل المملكة الأردنية الهاشمية. لذا، لنا أن نتخيّل كم سنكون وفرنا على أنفسنا من جهد وطاقة ومعارك ومشكلات لو كانت نجحت خطوة قيام حكومة عموم فلسطين مع كل الملحقات المطلوبة لذلك، سواء بما يتعلق بهوية الفلسطينيين ومؤسساتهم، أو بما يتعلق بمسألة تمثيلهم في الإطارين العربي والدولي.
أيضاً، الملاحظة الرابعة، المتعلقة بتسهيل هجرة يهود البلدان العربية إلى فلسطين/إسرائيل، إذ إن أكثر من 80% من المهاجرين اليهود إلى إسرائيل بين العامين 1948ـ1953، والذين بلغ عددهم 650 ألفاً هم من يهود البلدان العربية، أي من الذين لم يهاجروها قبلاً، بسبب عدم تقبلهم لأطروحات الصهيونية. ومعلوم أن هذا العدد ضاعف سكان إسرائيل من اليهود، وأن السياسات الغبية، أو المقصودة، التي انتهجتها بعض النظم العربية، في تلك الفترة، هي التي أدت إلى حصول هذه الهجرة.
أما الملاحظة الخامسة، فتتعلق بكيفية تعامل الأنظمة السائدة مع الفلسطينيين اللاجئين، فهؤلاء جرى عزلهم في مخيمات على أطراف المدن، جد بائسة، ولا تصلح للعيش، وتفتقد لأدنى مواصفات المناطق السكنية، أي كأنه جرت معاقبتهم بدلاً من التخفيف من معاناتهم باعتبارهم الضحايا. لم يقتصر الأمر على ذلك، إذ إن المعاملة التنكيلية شملت المنع من التنقل، والحرمان من تأشيرات الدخول لمعظم البلدان العربية. والمعنى من ذلك أن النظم السائدة تعاملت مع الفلسطينيين بطريقة تمييزية، بحيث ظلت تعتبرهم مجرد زيادة في عدد مواطنيها، بل إن دعايتها أنبنت على قضية زائفة، مفادها أن تحسين أحوال الفلسطينيين سيؤدي إلى تراجع أهليتهم الكفاحية.
باختصار، فإن التفكير بالنكبة، والتأريخ لها، يحتاجان إلى نوع من مراجعة نقدية ومسؤولة وجريئة، لاسيما أن فصولها مازالت تتوالى منذ أكثر من سبعة عقود.
(الذكرى 73 للنكبة)
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.