يصبح الحديث عن احتمال قيام إسرائيل بغزو القطاع في هذه أثناء أي تصعيد وارداً جداً، وهو ما تلوح به إسرائيل أحياناً. ومن الوارد أن تلوح إسرائيل، وتتخذ خطوات عملية على هذا الصعيد، في هذه الجولة نظراً لرد المقاومة العنيف على العدوان الإسرائيلي ومناداة العديد من المسؤولين والسياسيين باستعادة الردع الإسرائيلي ضد قطاع غزة.
إلا أن هناك الكثير من العقبات والمعيقات التي تقف أمام إسرائيل إزاء الغزو البري لقطاع غزة، ففي الحروب السابقة، التي أجرت خلالها إسرائيل توغلاً برياً محدوداً في القطاع، احتاجت إسرائيل لتنفيذ سياسة الأرض المحروقة من خلال القصف الجوي والمدفعي من الخارج لتمهيد الأرض أمام القوات البرية حتى تأمن توغلها المحدود في القطاع. وتستتبع عملية التمهيد بالقصف هذه إجلاء السكان عن المناطق التي تنوي القوات البرية التقدم داخلها، كما حدث في رفح والشجاعية وغيرهما في حرب 2014. وبالعادة يخلي السكان تلك المناطق تجاه مناطق أخرى في قطاع غزة، الذي لا تتجاوز مساحته 365 كم ويعيش عليه أكثر من مليوني إنسان، لتجنب القصف والدمار، وحتى تتمكن القوات البرية من التوغل دون عوائق.
إذا افترضنا أن إسرائيل تريد التوغل في كامل قطاع غزة، فإن عليها أن تمهد كل القطاع بالقصف الجوي والمدفعي حتى تتمكن القوات البرية من التقدم، وهذا ما يتطلب إجلاء جميع سكان القطاع.
المسألة هنا أنه ليست هناك مناطق يستطيع السكان الجلاء إليها داخل القطاع إذا كان كله عرضة لسياسة الأرض المحروقة. المسألة أن الجلاء لخارج قطاع غزة، يعني أن هناك خيارين لا ثالث لهما: إما أن يهرب السكان إلى داخل الأراضي المحتلة (إسرائيل)، لأن إسرائيل تحيط بقطاع غزة من كل الجهات تقريباً، وهذا يعني أن إسرائيل سيكون عليها استيعاب مليوني فلسطيني داخلها، لا يُعلم متى وكيف ستستطيع إعادتهم للقطاع في ضوء أن القطاع كله سيكون مدمراً تدميراً شبه كامل، ولا يُعلم أيضاً إذا ما كانت إسرائيل ستستطيع السيطرة على هذه العدد من الفلسطينيين إذا دخلوا لها.
وأما الخيار الثاني، فهو أن يتم إجلاء السكان إلى مصر عبر الحدود الضيقة التي تربطها مع غزة، والمشكلة التي تواجه إسرائيل في هذا الإطار هي نفس المشكلة التي تواجه مصر، فهل سيقبل النظام المصري، في حال افترضنا أنه ليس لديه مشكلة في تدمير قطاع غزة وتهجير سكانه مؤقتاً، بدخول هذا العدد من السكان إلى أرضه؟ وهل سيكون بمقدوره السيطرة عليهم أو التعامل معهم واحتوائهم، وهل سيستطيع تجنب ردة الفعل الشعبية، إذا حدث ذلك، على اعتبار أن النظام المصري سيكون شريكاً لإسرائيل في هذه الكارثة المادية والمجزرة البشرية؟
والسؤال الآخر هنا، هل تستطيع إسرائيل تنفيذ سياسة الترانسفير هذه في غضون أيام معدودة، على مسمع ومرأى من المجتمع الدولي والفاعلين الإقليميين في المنطقة؟ وهنا تجب ملاحظة أن المجتمع الدولي لا يقتصر على الكتلة الغربية اليوم، بل يجب أخذ الصين وروسيا وتركيا وإيران والدول الإسلامية الكبرى في الحسبان عند الحديث عن المجتمع الدولي، وحتى في الكتلة الغربية لن يكون هذا الأمر مقبولاً وخصوصاً في أوروبا التي تعارض دول كثيرة فيها سياسات إسرائيل ضد الفلسطينيين، عدا ضغط الرأي العام العالمي الذي سيمارس على الحكومات في أمريكا وأوروبا ضد إسرائيل إذا أقدمت على خطوة كهذه.
وإذا افترضنا أن المجتمع الدولي سيتغاضى عن ذلك، فهل تمر هذه الخطوة بدون رد فعل في الداخل الفلسطيني والضفة الغربية في ظل ما تشهده الأراضي الفلسطينية من موجة احتجاج عارمة ضد الاحتلال ومستوطنيه؟ وهل سيمر ذلك بدون رد فعل من حركات المقاومة والأذرع العسكرية الموالية لإيران المنتشرة في المنطقة؟ وهو ما قد يؤدي إلى فتح عدة جبهات ضد إسرائيل في هذه المعركة، وخصوصاً الجبهة الشمالية مع حزب الله اللبناني.
يقارن البعض بين حالات التهجير والجلاء التي حدثت في سوريا مع ما يمكن أن يحدث في قطاع غزة، ولكن المعادلة في غزة مختلفة كلياً. ففي سوريا كانت هناك حدود شاسعة تربط سوريا بدول الجوار، تركيا والعراق ولبنان والأردن، هذا عدا عن المناطق التي تسيطر عليها المعارضة في الداخل، وهذا ما مكّن السوريين من اللجوء إلى تلك المناطق المتاحة لهم. ولكن في حالة غزة، فالخيارات محدودة جداً وغير ممكنة عملياً، كما بيّنا سابقاً. وهذا ما يجعل المقارنة في غير محلها.
أمام هذه العقبات التي تدركها إسرائيل جيداً، يبدو خيار تهجير السكان المؤقت مستحيلاً. وإذا افترضنا أن تهجير السكان مستحيل، فإن ارتكاب إبادة جماعية ضد قطاع غزة لإفراغه من السكان، أيضا سيكون مستحيلاً.
لماذا لا تستطيع القوات البرية التقدم في القطاع دون إجلاء السكان وتمهيد الأرض بالقصف؟
نظراً لكثافة السكان في قطاع غزة التي تترافق مع ضيق مساحته يمكن تخيل التقدم في قطاع غزة كأنه توغل في الأدغال الكثيفة، وهذا في ضوء أن المعركة التي تخوضها إسرائيل مع فصائل المقاومة في قطاع غزة هي معركة غير متناظرة عسكرياً، أي أنها معركة لا تجري بين جيشين نظاميين متماثلين من حيث آليات القتال وأدواته؛ حيث يتقابل الجيش الإسرائيلي، في هذه المعركة، بعدته وعتاده الثقيل مع مجموعات من المسلحين تمارس أساليب حرب العصابات وتستخدم استراتيجيات وأدوات عسكرية غير تلك التي يستخدمها الجيش الإسرائيلي.
وهذا يعني أن الجيش الإسرائيلي لن يكون أمامه بنك أهداف تنتهي المعركة بعد تمكنه من القضاء عليه. وإنما يواجه مسلحين متخفين في باطن الأرض وفي كل مكان، في المناطق المهجورة أو المأهولة أو بين الركام. وهذه هي سمات الحروب غير المتناظرة المعروفة بالجيل الرابع من الحروب التي تفقد فيها الجيوش النظامية ميزاتها وقدرتها العملية في الميدان.
ولذلك، فإن توغل القوات البرية في قطاع غزة سيجعلها تدخل في مواجهة غير متكافئة يفقد الجيش الإسرائيلي فيها الكثير من ميزاته على الأرض، فالمقاومة تعرف المكان فوق الأرض وتحت الأرض جيداً، وتمتلك سرعة الحركة وخفتها بحكم عتادها الخفيف واعتمادها على الأنفاق تحت الأرض في التحرك، وهذا ما لا يمتلكه الجيش الإسرائيلي بحكم عتاده الثقيل وعدم قدرته على التحرك والتوغل السريع بفعل العوائق الديموغرافية والحضرية الكثيفة الناتجة عن الكثافة السكانية في القطاع.
بالإضافة إلى أن فصائل المقاومة ستحارب في الظل بحيث تكون خفية أمام الجيش الإسرائيلي الذي سيكون مكشوفاً أمامها، فإن سلاح الجو والمدفعية الإسرائيليين لن يستطيعا العمل في هذه الظروف؛ لأن قواته البرية ستكون في مرمى القصف، خصوصاً إذا دخلت قوات برية بأعداد ضخمة إلى القطاع، وهو المتوقع نظراً لظروف المعركة من حيث المعطيات، ومن حيث تعداد أفراد المقاومة الذي يتجاوز عشرات الآلاف وامتلاكهم عتاداً عسكرياً كبيراً جداً. وهو ما يعني أن سلاح الجو سيُحيَّد في هذه المعركة، وهو السلاح الأهم الذي تعتمد عليه إسرائيل في حروبها غير المتناظرة مع المنظمات شبه الدولانية في قطاع غزة ولبنان.
وإذا افترضنا أن إسرائيل ستقوم بإدخال قواتها البرية إلى قطاع غزة بعملية خاطفة مباغتة، فإن هذه القوات ستكون قد غرقت في وحل غزة ولن تستطيع الخروج منها، لأن سلاح الطيران سيُحيد حينئذ كما أسلفنا، وستُهاجَم هذه القوات من كل جانب، من فوق الأرض وتحتها، ولن يقتصر الأمر على أفراد المقاومة بل سيشترك في المعركة كل الغزيين بما لديهم من سلاح خفيف أو أبيض أو حجارة حتى.
أمام كل هذه المعطيات تبدو مسألة غزو قطاع غزة برياً مستبعدة وغير ممكنة عملياً. وعلى أية حال، فإن إسرائيل إن كانت تستطيع غزو قطاع غزة برياً وإنهاء وجود فصائل المقاومة فيها، لكانت فعلت ذلك في الحروب السابقة، وخصوصاً في حرب 2008 التي كانت قوة فصائل المقاومة خلالها أقل بكثير من قوتها في هذه المعركة. ولو كانت تستطيع غزو قطاع غزة لما انسحبت منه عام 2005، عندما كانت قوة فصائل المقاومة بدائية بالنسبة لقوتها في هذه المعركة. ولعل السبب الذي دفع إسرائيل للانسحاب من قطاع غزة في السابق سيدفعها لتجنب غزو قطاع غزة الآن، فإسرائيل لا تستطيع تحمل مسؤولية هذا العدد من السكان ولا تستطيع السيطرة عليهم. وعليه، فإن الغزو البري لقطاع غزة هو احتمال مستبعد؛ لأن إسرائيل ستكون حينئذ قد رمت بجنودها في معركة مجهولة المصير، هذا إذا تجاهلت الظروف الموضوعية التي تجعل هذا الخيار غير عملي.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.