المسألة ليست سياسية بالمرة، المسألة برمتها دينية، لكن الفرق البسيط هو أن هناك تغيُّراً يمينياً متطرفاً واضحاً داخل الكيان الصهيوني، وأن هناك صعوداً لتيار قومي ديني يتمثل بجماعات دينية متطرفة، يرى أن الهوية الدينية جزء أساسي من الكيان الصهيوني، تتمثل بوجوب سرعة حسم مسألة المسجد الأقصى المبارك وتحويله إلى معبد مزعوم، والذي يعتبر ركيزة أساسية لهذه الهوية، الكل يعلم ذلك تقريباً، لكن ما هي خفاياه الخطيرة؟ وما هو سر توقيت حدوثه أثناء العشرة الأواخر من شهر رمضان المبارك وخاصة في هذه السنة؟
هذا التيار القومي ليس حديثاً، بل هو يتصاعد منذ عام 2000 حتى الآن، وقد بدأ يدخل اليوم في الحكومات منذ بداية سنة 2013 وقد أصبح شريكاً أساسياً لبنيامين نتنياهو في كل حكوماته المتعاقبة منذ تلك السنة وحتى اليوم.
أما ما نشاهده الآن في القدس المحتلة من أحداث فهو ترجمة حرفية لمشروع واضح ورؤية أساسية لهذه الجماعات المتطرفة، وبنيامين نتنياهو جزء من هذه المشروع بالنسبة لهذه الجماعات، وهذا المشروع هو ما يسمى مشروع الإحلال الديني وإزالة المسجد الأقصى بكامل باحاته ومساحاته ومبانيه ومصلياته وإحلال مكانه الهيكل المزعوم.
الآن وبما أنهم باتوا متأكدين بأنهم بعيدون جداً عن تنفيذ هذا المشروع الذي أصبح بالنسبة لهم شيئاً فشيئاً حلماً لا يمكن تحقيقه، فقد تبنوا مجموعة من البرامج على الشكل التالي:
البرنامج الأول، هو برنامج التقسيم الزماني، وهو محاولة الوصول إلى مناصفة الأوقات مع الفلسطينيين في المسجد الأقصى، فيوم الجمعة هو يوم عيد للمسلمين لا يدخل فيه اليهود إلى المسجد الأقصى، ويوم السبت هو يوم عيد لليهود لا يدخل فيه المسلمون إلى المسجد الأقصى، وكذلك تقاسم الأعياد السنوية الأخرى، 9 ساعات للمسلمين و9 ساعات لليهود، وهذا البرنامج لم يرَ النور وقد اصطدم بهبة السكاكين في عام 2015 ومن ثم بهبة باب الأسباط في عام 2017 مما شكل لهم خيبة أمل كبيرة.
البرنامج الثاني، وهو البرنامج الذي قفزوا إليه قفزاً بعد فشل الأول وخيبة الأمل، وهو برنامج التقسيم المكاني ومحاولة اقتطاع الساحة الشرقية للمسجد الأقصى والتي مركزها مصلى باب الرحمة، وحاولوا في عام 2019 تنفيذه معتقدين وقتها أن قرار دونالد ترامب بالاعتراف بالقدس المحتلة عاصمة لدولة الكيان الصهيوني وأن التعهدات لإعلان ما سمي صفقة القرن والفراغ والعجز العربيين سيعطيهم فرصة سانحة واستثنائية من أجل تنفيذ ذلك، فكان الرد الشعبي المقدسي واضحاً وحاسماً من خلال هبة باب الرحمة واستعادة مصلى باب الرحمة كجزء من المسجد الأقصى لا يمكن التنازل عنه، وهو الآن مفتوح كمصلى حتى اللحظة رغم كل ما يحدث، فاستعادة باب الرحمة بددت تعب ست عشرة سنة من العمل البطيء والممنهج لهذه الجماعات لاقتطاع مصلى باب الرحمة، وتحقيق التقسيم المكاني أدخلهم في خيبة ثانية.
البرنامج الثالث، لم تقتنع هذه الجماعات المتطرفة بذلك، فقفزت مرة ثانية إلى أجندة ثالثة تبلورت منذ اقتحام الأضحى في تشرين الأول/أكتوبر عام 2019 وهي التأسيس المعنوي للهيكل المزعوم، بمعنى أن تؤدى جميع العبادات التلمودية داخل المسجد الأقصى المبارك وكأنه هيكل يهودي بغض النظر عن مبانيه، وأن يعامل على اعتباره مَعلماً يهودياً مقدساً، ومنذ ذلك التاريخ أصبح الهدف الأساسي لهذه الجماعات المتطرفة هو أن تستمر في فرض الطقوس التوراتية العلنية للهيكل المزعوم، وأن تؤديها بشكل جماعي في كل عيد من أعيادها داخل باحات المسجد الأقصى.
لذلك ما نشاهده اليوم من أحداث في المسجد الأقصى وحوله، وخاصة في شهر رمضان، هو ضمن ما يسمى عندهم ذكرى القدس، وهي ذكرى احتلال ما تبقى من مدينة القدس، حسب التقويم العبري، وهي محاولة الاقتحام بالآلاف، أي أن يدخل المستوطنون بالآلاف إلى المسجد الأقصى وباحاته، وأن يقوموا بتأدية طقوسهم التلمودية بشكل جماعي وعلني؛ ليبعثوا برسالة إلى العالم وإلى الفلسطينيين بأن هذا المكان أصبح معلماً يهودياً مقدساً، ويجب أن يفعلوا ذلك في العشر الأواخر من شهر رمضان المبارك ليقولوا للمسلمين أيضاً إنه عندما يتقاطع الزمان الإسلامي بالزمان الصهيوني، فيجب أن تكون الأولوية للزمان الصهيوني، هذا هو سر تلك الأحداث التي نتابعها اليوم والتي يدعمها نتنياهو.
إذاً المسألة دينية بحتة وليست سياسية بالمرة، كما يعتقد البعض، حين يقولون إن نتنياهو يحاول من خلال ذلك استمالة اليمين المتطرف لصفه، وإقناع الشعب اليهودي ببرامجه، خاصة أن وضعه السياسي اليوم صعب، أعزائي نتنياهو جزء من هذه البرامج التوراتية المتطرفة كما هو الكيان الصهيوني ككل، لكن كيف ذلك؟
لاحظوا، مثلاً أنه في سنة 1984 كان في الكنيست نائب يهودي واحد عن هذه الجماعات المتطرفة وهو الحاخام الهالك، مائير كهانا، وفي سنة 2002 أصبح هناك نائبان عن هذه الجماعات، وفي 2006 أصبحوا خمسة نواب، وفي 2009 ارتفع العدد ليصبح أحدَ عشرَ نائباً، اليوم هناك تسعة عشر نائباً في الكنيست عن هذه الجماعات الدينية المتطرفة، والذي يرى في مائير كهانا أستاذاً له في التطرف، والذي يرى أن المسجد الأقصى يجب أن يتحول إلى هيكل، والذي يرى أنه يجب طرد كل الفلسطينيين من الأراضي التي احتلت سنة 1948، والذي يرى كذلك أنه يجب طرد الفلسطينيين حتى من الأراضي التي احتلت سنة 1967، والذي يرى في الأردن وطناً بديلاً لهؤلاء الفلسطينيين بعد طردهم ليس فقط هؤلاء الجماعات وليس فقط نتنياهو الذي يعتبر جزءاً منهم بل كل المجمع اليهودي داخل دولة الكيان الصهيوني.
لكن نتنياهو اليوم الذي يعتبر أكبر ورقة بيد هذه الجماعات المتطرفة أصبح اليوم محاصراً من قبل ائتلاف متعدد الأطراف السياسية ليس له أي هدف آخر سوى إزالة نتنياهو من الحياة السياسية داخل دولة الكيان.
في المقابل، لم يعد هناك من حلفاء مخلصين لنتنياهو سوى هذه الجماعات المتطرفة التي ينتمي لها، والتي تطالبه بتطبيق أجنداتها المتطرفة التي تفضح كيانهم أمام العالم، لذلك دخل نتنياهو اليوم في دوامة خطيرة، فهو ضعيف ومطلوب منه تحقيق أجندات هائلة ومستحيلة لا يمكن تطبيقها، وهو يعلم ذلك، لذلك هو اليوم مأزوم ومترنح ويحكم حكومة تسيير أعمال وكيانه الصهيوني دخل أربعة انتخابات، وها هو داخل على الخامسة، لذلك نتنياهو لن يستطيع المجازفة أكثر بحدوث انتفاضة فلسطينية شاملة ستنسف كل ما أنجزه الكيان حتى اللحظة وهو قليل.
اليوم.. أهل القدس أدركوا هذه المعادلة، ولذلك أصبحوا يفرضون على نتنياهو وعلى جماعاته المتطرفة وعلى حكوماته التراجعات مرة بعد أخرى منذ عام 2015 حتى 2017 إلى أن وصلت اليوم لتصبح 6 تراجعات، كلها في ملفات مركزية بالنسبة لهم، من التقسيم الزماني، والتقسيم المكاني، ومحاولة تغيير حدود القدس بعد قرار ترامب نقل السفارة، وكانت هذه الأخيرة قضية مركزية أيضاً اضطروا للتراجع عنها تحت ضغط شعبي ودولي، حاول أيضاً نتنياهو أن يقضم مقبرة باب الرحمة سنة 2018، لكنه اضطر كذلك إلى التراجع تحت ضغط شعبي، وحاول خلال شهر رمضان هذا 2021 أن يُغلق باب العامود بحواجز حديدية مؤقتة، ولكنه فشل في هذه أيضاً.
أي نوع من السيادة هذا الذي يحاول فرضه نتنياهو والذي يَعتبر القدس عاصمة له حين يحاول وضع حواجز حديدية مؤقتة في ساحاتها العامة ثم يفشل في ذلك؟ هذه رسالة واضحة من المقدسيين لنتنياهو وجماعته المتطرفه ولكيانهم الصهيوني المترنح مؤداها أن المعادلة تغيرت الآن، ويجب أن تتراجعوا إلى الخلف، وأن حق الفلسطينيين في القدس والمسجد الأقصى وكامل فلسطين من البحر إلى النهر لن يطمسه لا سلاح ولا جيش ولا قرارات إدارة أمريكية ولا تطبيع مع أنظمة عربية هشة، وأن ما نشاهده اليوم من اقتحامات للمسجد الأقصى هي آخر محاولات تقوم بها هذه الجماعات الدينية المتطرفة الخائبة بعد أن فشلت فشلاً ذريعاً في تنفيذ برامجها، ولن نشهد لها اقتحامات أخرى في المستقبل بالمرة.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.