رد “صفعة ليبيا” للقاهرة واستبدال مصر في المنطقة.. لماذا تخلق الإمارات مسار موازٍ لمفاوضات سد النهضة؟

عربي بوست
تم النشر: 2021/05/11 الساعة 10:06 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2021/05/11 الساعة 14:07 بتوقيت غرينتش
رئيس وزراء إثيوبيا آبي أحمد وحاكم الإمارات الفعلي محمد بن زايد/ وام

شهدت الشهور القليلة الماضية عدة تحركات يمكن وصفها بـ"المريبة" للسياسة الإماراتية من وجهة نظر مصرية. قبيل أشهر معدودة من بدء إثيوبيا الملء الثاني لسد النهضة، في يوليو/تموز القادم دون التوصل لأية اتفاقات مع كل من مصر والسودان، ومع تأزُّم مسارات المفاوضات بين الدول الثلاث، والتي جرت جولتها الأخيرة في العاصمة الكونغولية "كينشاسا"، مطلع أبريل/نيسان الماضي، وبعدما تصاعدت حدة الخطابات المصرية-السودانية في تصعيد متأخر، برزت الإمارات رافعة حمائم السلام والصلح، سواء فيما يتعلق بملف "الفشقة" والحدود السودانية الإثيوبية، أو عرضها للوساطة في أزمة السد التي استعصت على كبار الوسطاء الدوليين المعنيين، سواء مجلس الأمن أو الاتحاد الإفريقي أو الولايات المتحدة. تزامنت عروض الوساطة الإماراتية مع عروض سعودية وتركية في بعض الملفات المتداخلة، فيما يمكن تسميته تصارع الوسطاء وتعدد الوسطاء غير المنتج لحلول.

وساطة الفشقة.. مصالح إماراتية بحتة

في 12 يناير/كانون الثاني، تدخل الإمارات والسعودية وفقاً لتقارير على خط الوساطة، لتخفيف حدة التوتر بين الخرطوم وأديس أبابا، إذ وصل وفد إماراتي إلى العاصمة السودانية، والتقى عدداً من المسؤولين السودانيين بعد لقائه في وقت سابق مع الجانب الإثيوبي. واجتمع الوفد الإماراتي برئيس المفوضية القومية للحدود "معاذ تنقو" بشأن هذا الملف، وتملك الإمارات قاعدة عسكرية كبيرة في منطقة عصب بإريتريا، ويعتقد أنها تستخدم في تدريب قوات "الجنجويد"، لكنها تواجه قلقاً أمريكياً من تزايُد نشاطها في المنطقة، وتحدثت بعض القوى السياسية السودانية عن ممارسة أبوظبي ضغوطاً شديدة على المسؤولين السودانيين لأجل القبول بهذه الوساطة.

في فبراير/شباط الماضي عرضت الإمارات وساطة أكثر جدية وحزماً في الملف الحدودي بين السودان وإثيوبيا، وهي الوساطة التي يبدو أن الطرف الإثيوبي كان مَن طلبها لحل الأزمة، خصوصاً بعد استعادة الجيش السوداني لأجزاء واسعة من أراضي الفشقة، إحدى أخصب المناطق في السودان، والتي كانت الميليشيات الإثيوبية المدعومة من الجيش تستولي عليها لعقود، وتشن منها غاراتها على المزارعين والجيش السوداني. رأت الإمارات فرصة جيدة في هذه الوساطة لفرض تسوية أقرب للتسوية الاقتصادية للأزمة، تخرج منها الشركات الإماراتية الضخمة العاملة في الاستثمار الزراعي في السودان وإثيوبيا منتصرة، وتتخذها إثيوبيا مدخلاً لتوتير العلاقات بين السودان ومصر، التي بدت مؤيدة للخطوات التي اتخذها السودان لاسترداد أراضيه. هذه الوساطة أثارت قلق مصر، بحسب تقارير، سواء من جهة سحب السودان للعودة للموقف السابق الذي كان يقف فيه موقف الوسيط في أزمة سد النهضة ومفاوضاتها، والذي لم يتغير كثيراً حتى سبتمبر/أيلول الماضي، ومن ثم إضعاف التنسيق المصري السوداني الذي لم يُكمل إلا شهوراً، لكنه يسير على نحو جيد جداً، خصوصاً بعد الاتفاقية العسكرية والتدريبات المشتركة التي جرت مؤخراً، وأوصلت رسائل تصعيدية سواء للضغط من أجل التوصل لاتفاق شامل بخصوص الملء الثاني لسد النهضة، أو لإيصال رسالة بأن الحل العسكري مازال قائماً حال فشل الحلول الأخرى.

الإمارات والوساطة في ملف السد ورقة التوت الأخيرة في علاقات استراتيجية

ظلت الإمارات والسعودية لسنوات تلتزمان الصمت في أزمة سد النهضة، كما ظلت الصحف ومراكز البحث والإعلام المصري تتجاهل التعارض الصريح بين مصالح الإمارات مع كل من السودان ومصر من جهة، وإثيوبيا التي تستثمر فيها تلك الدول عشرات المليارات، في مشروعات زراعية ضخمة، تأمل من خلالها أن تتحول الإمارات لمركز عالمي لإعادة تصدير الغذاء بسياسات ليست وليدة الصدفة، وإنما مخططة وتسير فيها منذ عقدين تقريباً. ونحن هنا إزاء تعارض جذري في قضية السد بين مصالح حليفين كالنظام في مصر والنظام في أبوظبي، اللذين لطالما وصفا علاقاتهما بالاستراتيجية، وهي كذلك ولم يشُبها سوى بعض التعارض في المصالح في الملف الليبي، الذي ورطت فيه الإمارات مصر بدعم طرف لم ينجح ولو لمرة طيلة سنوات الدعم اللامحدود، حتى جاءت التسوية السياسية الدولية للأزمة على حسابه، وكذلك ساهمت في زيادة توتير علاقاتها بتركيا إلى حد غير مسبوق منذ عقود.

عرضت السعودية الوساطة في ملف السد ضمن قمة عربية إفريقية لا تزال مؤجلة، جاء هذا العرض على لسان وزير الدولة السعودي للشؤون الإفريقية وسفيرها السابق لدى مصر أحمد القطان، كان هذا العرض وسط تصريحات غاية في الاستفزاز، سواء للنظام أو لعموم المصريين، بدا فيها القطان متحدثاً كمندوب سامٍ للرياض في القاهرة. وفي 24 أبريل/نيسان، وعقب أسبوع من التصعيد في حدة التصريحات بين الدول الثلاث، جاءت زيارة ولي عهد أبوظبي للقاهرة، زيارة قصيرة لم تستغرق سوى 6 ساعات، الزيارة التي جاءت عقب نشر تقارير عدة تحدثت عن توتر العلاقات بين البلدين خلال الفترة الماضية، كان ملف السد عنوانها الرئيسي بحسب وسائل الإعلام الدولية، لتعود مصر لسلسلة من التصريحات تصب في اتجاه التأقلم مع ملء ثان محتمل أن يتم من دون اتفاق، ويصعد إلى واجهة المشهد أخبار مشروعات تحلية المياه وتبطين الترع وغيرها من الإجراءات التي وإن كانت مطلوبة بدون السد فإنها لن تعوض النقص المتوقع في حصة مصر من المياه، ولو سارت بأقصى كفاءة ممكنة.

لم تكتفِ الإمارات بتلك الأدوار، التي أنزلتها موضع الشبهات في عيون أجهزة القاهرة، في تبريد الموقفين المصري والسوداني والدفع باتجاه قبول السد والملء الثاني كأمر واقع. بل دفعت باتجاه خلق مسار موازٍ سواء للمسار الأممي الذي حاولت الدولتان الدفع باتجاهه بقوة؛ نظراً لفشل المسار الإفريقي، أو بالدفع الإماراتي الأمريكي باتجاه العودة للمسار الإفريقي، الذي لم ينجم عنه في السابق سوى فرض أمر واقع إثيوبي، ولن ينجم في المرحلة أكثر من كسب مزيد من الوقت لصالح المفاوض الإثيوبي. بدت ملامح هذا المسار في تهدئة مصر إعلامياً بالتراجع عن التصريحات الحادة، والتذكير بتكلفة خيار الحرب، بل ذهب البعض لاستحالتها، ثم كان تهافت الخارجية المصرية إلى حد كتابة السفير المصري في واشنطن مقالاً بمجلة فورين بوليسي، يذكر فيه واشنطن بدورها في قيادة عملية التطبيع مع إسرائيل، ويستجدي فيه تدخلاً جدياً للولايات المتحدة للضغط على إثيوبيا، كحل وحيد للأزمة، بدلاً من مواجهة عدم الاستقرار الناجم عن آثار السد البيئية والاقتصادية التي ستقوض الاستقرار في المنطقة عبر الهجرة والإرهاب.

في الوقت نفسه كانت الخارجية السودانية تغرد بعيداً باتجاه خطاب تصعيدي يرد على المزاعم الإثيوبية، بحدة غير معهودة على مدار المفاوضات، سواء عبر تصريحات وزيرة الخارجية السودانية السيدة مريم الصادق المهدي، التي عبرت فيها عن توظيف إثيوبيا لقضية السد من أجل تركيع وإخضاع دولتي المصب لتحقيق أحلام الهيمنة الإثيوبية، أو من خلال توضيح أن التراجع عن الاتفاقات التاريخية يعني عودة المنطقة المقام عليها السد التابعة لإقليم بني شنقول للسودان، ومن ثم على إثيوبيا التوقف عن استخدام مظلومية الاتفاقيات الاستعمارية التي لم تكن طرفاً فيها، وهي لم تكن مستعمرة في وقت توقيع هذه الاتفاقات.

وعندما فشلت محاولات الإمارات للوساطة المباشرة في هذا الملف، لجأت لتحريك الرئيس الإريتري، أحد أقرب حلفائها في المنطقة، ليحاول رأب الصدع بين السودان وإثيوبيا، ويحاول إقناع الأولى للعودة للمسار الإفريقي، بعيداً عن مجلس الأمن أو أي مسار أممي آخر. ويأتي هذا في إطار تنسيق محتمل بين الإمارات والمبعوث الأمريكي للقرن الإفريقي جيفري فيلتمان، والذي لم تكن أزمة السد على أولوياته، بخلاف التوقع المصري، وإن قام بجولة مؤخراً، وكانت هذه الزيارة وفقاً للخارجية الأمريكية في إطار التزام الإدارة الأمريكية بقيادة جهد دبلوماسى لمعالجة الأزمات السياسية والأمنية والإنسانية المترابطة فى القرن الإفريقى، لكن تبدو الجهود الأخيرة للإمارات والإدارة الأمريكية الجديدة تصب في اتجاه كسب مزيد من الوقت، لتمرير الملء الثاني من دون اتفاق، أو باتفاق هش، أو إفقاد القاهرة والخرطوم الشرعية الدولية لأي تحرك عسكري في مواجهة حالة الملء الثاني. وفي هذا الإطار أيضاً يمكن تفسير الحركة المكثفة لرئيس الكونغو باعتباره الرئيس الحالي للاتحاد الإفريقي لكل من السودان ومصر مؤخراً، دون الإعلان عن أية تفاصيل، حول ما يحمله من مبادرات أو عروض لحل الأزمة.

هل نحن إزاء إسبرطة جديدة حقاً؟

في 2017 وصف وزير الدفاع الأمريكي الجنرال جيمس ماتيس، الإمارات باعتبارها "إسبرطة الجديدة"، وتناقلت العديد من الدراسات والمقالات هذا التشبيه في استعادة لإسبرطة التاريخية، الدولة المدنية التي لعبت أدواراً أكبر من حجمها الطبيعي، تشبيه دولة الإمارات بها ليس عبثاً. ربما شاء ماتيس من هذه الاستعارة رسم حدود الدور المنوط أمريكياً بالإمارة الخليجية، من دون أن يستكمل التشبيه التاريخي بإعطاء محمد بن زايد دور شخصية "أوريبادس" في معركة سالاميس، القائد الإسبرطي الذي كانت على يديه هزيمة مردونيوس الفارسي، واضطرار الجيوش الفارسية إلى الانكفاء نحو آسيا الصغرى.

تتشابه الدولتان في صغر حجمهما مقارنة بأدوارهما، ومحاولات توسيع نفوذهما لأقصى مدى ممكن، مقارنة ماتيس التاريخية وفقاً لبعض الآراء لا تبدو خيالية، مع غض الطرف عمّا سيسفر عنه الدور الإماراتي من نتائج، حيث تعمد أبوظبي إلى الانتشار العسكري والأمني. ذلك تحت غطاء مشاريع تجارية ترتبط بالموانئ والشركات الإماراتية العملاقة التي تديرها، على طول الخط البحري الاستراتيجي الممتد من عمق الخليج العربي إلى نقاط البحر الأحمر الحساسة، الموزعة بين ضفتي القرن الإفريقي والشواطئ اليمنية، مروراً ببحر العرب وجزره المستحكمة بالممرات المائية الدولية، كأرخبيل سقطرى اليمني. هذا الدور الكبير في الإقليم للإمارة الصغيرة من حيث الحجم الجغرافي والديمغرافي يستحسنه الأمريكيون من حليفتهم، بل لا يخفون تفضيله على الدور الموازي للمملكة السعودية.

إلا أن اسبرطة كانت تخوض معظم حروبها بنفسها، وبقيادة من أفراد الأسرة الحاكمة، وأخذت صيتها من امتلاكها الجيش الأقوى في اليونان القديمة، ومن مواجهة أعداء اليونان، وليس بتوريط حلفائها وإفقادهم الأدوار التاريخية لصالح إسبرطة. أو توريط حلفائها في ملفات على النقيض من مصالحهم وإيجاد فاعلين من غير الدول يصعب التحكم في نتائج تفاعلاتهم كما هو الحال في ليبيا، وكما هو مزمع إماراتياً في السودان، وربما في تشاد. تلك السياسات تقود لتفخيخ المنطقة وتصعيب أية محاولة لإدارة الصراعات فيها، إذ تنتج على الدوام محاور متصارعة متغيرة، وعلاقات إقليمية غير مستقرة، بل وتضع الإمارات في موضع تقييد من قبل حلفائها، لمحاولة التحكم في النتائج غير المرجوة لسلوكها.

في التحليل الأخير ربما كانت الوساطات الخليجية المعروضة ممكنة لو تمت في بدايات الأزمة، لكن تضعف فاعليتها الآن أمام تعقد وتناقض مصالح أطراف الأزمة الثلاثة؛ السودان ومصر وإثيوبيا، وبالتالي تواجه محدودية في المناورة أو فرض الحلول الوسط دون انحياز كبير لمصالحها أو مصالح أقرب حلفائها.

لا تبدو المحاولات الإماراتية للتهدئة وخلق مسار ثانٍ للمفاوضات بشأن سد النهضة في هذا الوقت الحاسم من عمر أزمة السد تصب في صالح مصر أو مصالح شعبها. ولذا تثور تساؤلات عدة حول حقيقة دفع الإمارات باتجاه التهدئة الآن، هل تحاول تأليب الرأي العام المصري على نظام عبدالفتاح السيسي؟ أم تقوم بردّ صفعة عدم التدخل الكافي والمطلوب والمباشر من قبل مصر في اليمن وليبيا، عبر توريطها في أزمة وجودية تجهز على ما تبقى من دور لها في المنطقة؟النظام المصري بين نارين، أولاهما نار خيار عدم التدخل العسكري الحاسم، وبالتالي فقدان القوات المسلحة جزءاً من احترامها وهيبتها في وجدان المصريين، يضاف إلى صفعة تيران وصنافير، وقد يقود لتحرك سياسي داخل الجيش المصري في المستقبل. والنار الأخرى هي الخوف من التدخل على غير رغبة الرئيس وبضغوط من الجيش، ومن ثم زيادة رصيد الجيش لدى الشعب المصري وإعادة التعويل عليه في التغيير.
على كلٍّ، بخطى ثابتة تسير الإمارات نحو إزاحة مصر من قلب المنطقة والحلول محلها، وينطبق هذا بدرجة ما على السعودية، إلا أن عملية إحلال الأدوار تلك ليست بالعملية السهلة أو الممكنة عملياً دون كلفة مادية وبشرية عالية، لا تستطيع الدول الصغرى تحملها على المدى البعيد، إذ قد تفقدها تصرفاتها تلك أهم حلفائها في المنطقة، وتحيل هذه المنطقة إلى ركام لا يمكن التحكم بمآلاته.

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

عمر سمير
كاتب ومحلل سياسي وباحث في العلوم السياسية
كاتب ومحلل سياسي وباحث في العلوم السياسية
تحميل المزيد