كيف تحوّلت الدبلوماسية الفرنسية في لبنان إلى أقوى عروض الميلودراما الرمضانية؟

عربي بوست
تم النشر: 2021/05/08 الساعة 12:52 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2021/05/08 الساعة 12:52 بتوقيت غرينتش
رويترز

اكتسح العرض الميلودرامي التراجيدي الذي قدمه وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لو دريان في لبنان المسلسلات الرمضانية قاطبة، وتربع في صدارتها دون منازع، فبعد بداية شهر مخيبة للآمال بعض الشيء لجهة المسلسلات والأعمال الدرامية التلفزيونية اللبنانية، والتي لا مجال هنا للاستفاضة في تبيان أسبابها، كان من الجلي أنه عندما وطأت قدما لو دريان أرض مطار بيروت في 6/5/2021، كان قد حان الموعد، حان الموعد، حان موعدنا، جاء البطل يحزن شاشتنا!

 ولكنّ البطل الذي جاء في آخر الشهر الفضيل هذا العام لينقذ الموقف التمثيلي العام ويسمو بمستوى الميلودراما في لبنان، لم يكن "جونكر"، شخصية الكارتون، الذي كان يأتي من اليابان، مساء كل نهار جمعة في الساعة السادسة، ليفرح شاشة أطفال لبنان ويخفّف عنهم بعض الشيء في خضم سنوات الحرب الأهلية. البطل الذي جاء هذه المرة يبدو أنه وصل على متن طائرة وهو يستمع بشكل مستمر إلى ألبوم من ألبومات فيروز ـ كيف لا وقد خصّها رئيسه إيمانويل ماكرون بزيارة في سبتمبر/أيلول الماضي ـ وهي تنشد نفس الأغنية طوال كل الرحلة: "يا عاقد الحاجبين، على الجبين اللّجين"، لدرجة أنه تقمّص شخصية الأغنية بإتقان متميّز طوال الأربع والعشرين ساعة التي قضاها في لبنان. 

سياسة الحرد والتقريع التي ميزت زيارة لودريان الأخيرة إلى لبنان قد ترجمها عبر اقتصار جدول زياراته على زيارتين بروتكوليتين قصيرتين فقط لم تتعدّ أي منهما مدة الأربعين دقيقة، واحدة لرئيس الجمهورية ميشال عون، وأخرى لرئيس مجلس النواب نبيه بري، كان قليل الكلام خلالهما، عبوساً، واجماً، وقد نقل المطلعون على أجواء اللقاءين أنّ أجواء متوترة سادت خلالهما، سيما أن الوزير الفرنسي لم يدلِ بأي تصريح عند خروجه من القصر الجمهوري أو من مقر رئيس مجلس النواب. وقد انسحبت نفس أجواء الوجوم على اللقاء اللاحق الذي جمع لو دريان برئيس الحكومة المكلف سعد الحريري، الذي لم يقم رئيس الدبلوماسية الفرنسية بزيارته في بيته (بيت الوسط)، بل دعاه إلى لقاء مقتضب في مقر السفارة الفرنسية في قصر الصنوبر. أما المؤتمر الصحفي الذي ختم به الضيف الفرنسي زيارته للبنان، فاشتمل على تقريع للمسؤولين اللبنانيين على عدم الوفاء بالتزاماتهم التي كانوا قد قطعوها للرئيس الفرنسي أثناء زيارته لبنان في سبتمبر/أيلول الماضي. 

إنّ الموضوعية تحتّم على مراقب الشأن اللبناني أن يكون ممتناً لفرنسا بشخص وزير خارجيتها على أنها ما زالت تهتم بالوضع اللبناني، في حين أنّ جميع الدول -القريبة قبل البعيدة- قد تخلّت عن بلاد الأرز وتركتها وحيدة لقدرها المشؤوم. ولكنّ الحرد لا يصنع سياسة خارجية، والحزن والتقريع لا يشكلان دبلوماسية، وحركات الدراما كوين لا تبني مبادرة حل، فكل هذه التصرفات المسرحية المذكورة آنفاً إن دلّت على شيء فعلى ضعف الدبلوماسية الفرنسية، والفشل الذريع الذي أصيب به في لبنان، بوابتها للشرق الأوسط، وغرقه في الرمال المتحركة اللبنانية، وهو ما كنا حذرنا منه، لا بل على الإفلاس والافتقار لأي وسيلة ضغط فعالة على الساحة اللبنانية، لدرجة أنّ جل ما استطاع تفتّق مخيلته على اجتراحه كورقة ضغط لمواجهة هذا الفشل لم يتعدّ انتهاج سياسة "حردان واسيني، زعلان راضيني"، أي على طريقة نكد الحماء رداً على "سمّات بدن" الكنّة. 

هذ السياسة (إن صح تسميتها كذلك) الفرنسية في لبنان، الذي يفتقر إلى النضوج، تقترب إلى تصرف الهواة في السياسة الخارجية أكثر منها إلى سلوك محترفي الدبلوماسية، وهو ليس بالأمر الجديد. فمنذ زيارته للبنان غداة انفجار مرفأ بيروت، في 4 أغسطس/آب الماضي، وتعويمه للطبقة السياسية اللبنانية، التي يهيمن عليها حزب اللّه، والتي كانت بحالة إرباك شديد بعيد الكارثة التي حلت بالعاصمة اللبنانية، كان جليا أنّ الدبلوماسية الفرنسية على درجة عالية من السذاجة، إذ ارتضت لنفسها أن تقع في فخّ الوعود الواهية والفارغة بالإصلاح، لاسيما الوعد بتشكيل حكومة اختصاصيين، التي أغدق بها أركان الطبقة السياسية اللبنانية عليها. 

يومها كان ماكرون يلعب في الوقت الضائع قبيل الانتخابات الرئاسية الأمريكية في خريف 2020، فكان الوكيل (فرنسا ماكرون) يفاوض عن الأصيل (أمريكا ترامب)، لاسيما مع حزب اللّه، ذراع إيران في لبنان. ولكنّ الذي استجدّ اليوم هو أنّه بعد وصول بايدن للرئاسة في أمريكا عاد الأصيل ليتفاوض بنفسه مع إيران في فيينا، فما الحاجة إلى الوكيل بعد اليوم؟

فمن النتائج غير المباشرة للمفاوضات الأمريكية الإيرانية تعرية الدور الفرنسي كلياً في لبنان، وإظهاره على حقيقته المُرة بأنه يقترب إلى الفراغ في المضمون، لاسيما أنه يفتقر إلى أي وسيلة ضغط حقيقية. أما العقوبات ضد المعرقلين في لبنان، التي لوّحت فرنسا بها مراراً، فاصطدمت بحائط مسدود على المستوى الأوروبي، أقله حتى الآن، ويبدو أنها غير ذات جدوى كبيرة في حال اقتصرت على عقوبات فرنسية فقط (تجميد أموال في فرنسا ومنع سفر إلى الأراضي الفرنسية)، خصوصاً أنّ قسماً كبيراً من رجال السياسة في لبنان حاصلون على الجنسية الفرنسية، ما من شأنه تعطيل هذه العقوبات وإفراغها من أي فاعلية قانونية تذكر. 

أما رهان الدبلوماسية الماكرونية على قوى المجتمع المدني التي اجتمع بها لو دريان في قصر الصنوبر، لاسيما على فوزها في الانتخابات النيابية القادمة في لبنان (ربيع 2022)، فهو يندرج في نفس الرؤية الساذجة للسياسة في لبنان. صحيح أنّ قوى الحراك المدني اكتسبت شرعية لا يستهان بها في الشارع اللبناني، لاسيما بعد انتفاضة 17 أكتوبر/تشرين الأول 2019، ولكنّ الاعتقاد أنّ هذه القوى المدنية سوف تكتسح الانتخابات النيابية القادمة، وأنّ الأحزاب والزعامات والقوى التقليدية السياسية التي تسيطر على المشهد السياسي اللبناني منذ ما قبل تأسيس دولة لبنان الكبير سوف تنكفئ بين ليلة وضحاها، هو ضرب من ضروب السخافة والخيال.

 كما أن كل المحاولات الإعلامية لنفخ وتكبير حجم قوى المجتمع المدني، لاسيما بتسميتها بـ"مجموعات الثورة" وما شاكلها من النعوت البراقة، وكأنها تضم بين صفوفها شخصيات كلينين وتروتسكي وكاسترو غيفارا، أو ربما أيضاً جورج دانتون وماكسيميليان روبسبيار الأقرب إلى الوزير الفرنسي، كل هذه المحاولات تفتقر إلى الواقعية، وهي مضللة لمن يقوم بها قبل أي أحد آخر. ناهيك عن أنّ جزءاً من الذين يدّعون أنهم من قوى المجتمع المدني الذين اجتمع بهم لو دريان، هم من صلب الطبقة السياسية الفاسدة وأحزابها التقليدية الذين قرروا فجأة نقل البارودة من كتف إلى كتف وركوب موجة الحراك في لبنان. 

وهذه المبالغات الإعلامية إن تشبه شيئاً فهو غلو بعض الصحافة اللبنانية في إضفاء أهمية على زيارة لو دريان للداخل الفرنسي، مدعية أنّ نجاح الوزير الفرنسي في لبنان سوف يكون أساسياً في معركة إيمانويل ماكرون الانتخابية الرئاسية العام المقبل. هذه النظرة الشوفينية للبنان كنقطة ارتكاز العالم تفتقر إلى أي مقوّم علمي. فعدد الناخبين اللبنانيين الفرنسيين غير كاف لتشكيل ثقل انتخابي ممكن أن يبرر أطروحة كهذه، كما أنّ السياسة الخارجية ككل تبقى شأناً ثانوياً جداً للناخب الفرنسي، فما بالك بلبنان، وهو بلد صغير وبعيد نسبياً عن فرنسا، وهو خلافاً لدول من العالم الثالث كالدول الإفريقية (يورانيوم)، أو دول الخليج العربي (نفط وغاز)، لا يصدّر أي ثروات طبيعية مؤثرة على الاقتصاد الفرنسي، وليس لديه ما يشتري به مقاتلات الرافال الفرنسية (مصر، الإمارات). 

بالمحصلة، ضعف الدبلوماسية الفرنسية في المضمون الذي أظهرته زيارة لو دريان الأخيرة إلى لبنان جعل من شكل هذه الزيارة أقرب إلى الهزل الكوميدي منه إلى الدراما التراجيدية، التي أراد أن يظهرها الوزير الفرنسي بتصرفاته ولغة وجهه وجسده. إنّ فرنسا المشكورة على اهتمامها بلبنان، تستحقّ أفضل بكثير من سياسة خارجية كهذه، وهي تزخر بالطاقات الأكاديمية وبالخبرات الدبلوماسية من أجل تحسين أدائها في الشرق الأوسط، ومدى نجاح دبلوماسيتها في هذه الرقعة من العالم مرتبط بدرجة تواضعها في علاقتها مع العالم الاسلامي. أمّا لبنان فيستحقّ ما هو أفضل بكثير من هذه الطبقة السياسية الجاثمة على صدره، والتي أوصلته إلى ما دون الحضيض على كافة المستويات، وما هو أفضل من محاولات تعويمها، وهو يزخر بالطاقات الشابة وبالخبرات العلمية للنهوض، ولكن تبقى الواقعية والتواضع في الأهداف مفتاحي النجاح.

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

ساجي سنّو
حقوقي وكاتب سياسي لبناني
حقوقي وكاتب سياسي لبناني مقيم في باريس
تحميل المزيد