رحلتي في التعليم في مصر.. حكاية من حكايات الكادحين

عربي بوست
تم النشر: 2021/05/06 الساعة 12:48 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2021/05/06 الساعة 12:49 بتوقيت غرينتش

"حين تفتش في حقيبة الذكريات فتكتشف الحقيقة القاسية.. حين تدرك أنك من المجني عليهم.. وترى ذاك الطفل قد تعرض للظلم حتى في حقه المشروع بإيجاد تعليم جيد.. حين يعلو الجنس على النظام التعليمي بأكمله". 

ربما يبدو كلاماً غريباً بعض الشيء، لكن ليس أغرب مما كنت شاهداً عليه ورأيته بأم عيني في الصفوف الدراسية وتحديداً في المدارس الحكومية المصرية، لكن دعنا نأخذ السطور من أولها عل وعسى ندرك ما مدى تأثير التعليم على طالبي العلم في مصر. 

حكاية الكادحين أبناء الكادحين

كنا مجرد أطفال لهم ما لهم وعليهم ما عليهم، منضمين للطبقة الوسطى "الكادحة"، أي يعني كادحين أبناء كادحين، وإن كنت تتعايش وتعيش في مصر فمن الأكيد أنك ستتسم بمهارة التمييز. 

 التمييز بين من هم في المدارس الحكومية ومن هم في التجريبية ومن في الخاصة، فالأولى يتميز طلابها بالفوضى وحالة التقشف الطفيف والقميص الأزرق المتسخ والشجار الدائم، وأما عن الثانية والثالثة فطلابهم لا يختلفون عن بعضهم كثيراً. 

 ربما الفارق يكون في الراتب أو الحاصل الشهري الذي يضاف إلى الحسابات البنكية لأولياء الأمور، وأما عن طلاب المدارس الخاصة فمعروفون بالزي الأنيق الموحد، وفي الغالب يرتدي أغلبهم "ساعة يد"،  حاملين الهواتف المحمولة، وهادئين بعض الشيء.

والجدير بالذكر أن  أثرى أثرياء مدرستي كان يحمل هاتف زراير يكاد ينفجر من حالته المتدنية الرديئة. 

كانت هناك مشاحنات من حين لآخر بين طلاب المدرسة الحكومية والخاصة تصل للضرب المبرح، وحالة من الكره المتبادل بين الطرفين، وحتى الآن لا أعرف جيداً ما سبب ذلك الكره ومن أين خُلق؟!

 وأكاد أجزم أن الفارق الطبقي المفروض علينا جميعاً كان سبباً بشكل ما في خلق حاجز نفسي بين طلاب المدرستين، وأما عن نفسي فلم أكن أكره أحداً، لكن كنت أبغض هؤلاء الفتيان وحسب. 

 ربما لأنهم لا يشبهونني بشيء أو يشبهون من حولي، وعلى الرغم من كل هذا، كانت مدرستي أرقى بكثير من باقي المدارس الحكومية التي تجد بها "مئة وعشرين" طالباً وطالبة في فصل يكاد يتسع لثلاثين شخصاً على الأرجح. 

وكنا نحن حوالي خمسة وعشرين طالباً، فبذلك أستطيع وبكل أريحية أن أقول إننا كنا في مدرسة حكومية راقية، لأنها لم ترغمنا على افتراش الأرض.

كنت من المجني عليهم

وأما عن الجانب التعليمي، فبإمكاني تلخيص ما مدى فائدته وتأثيره من خلال استخدام النسبة المئوية التقريبية، فمثلاً ٩٠% من طلاب دفعتي في المدرسة الابتدائية لا يستطيعون قراءة اللغة الإنجليزية و٨٠% لا يحفظون جدول الضرب، و٥٠% لا يستطيعون الإملاء، و٣٠% ضعفاء في القراءة، و١٠% لا يستطيعون القراءة والكتابة.

ولك أن تتخيل عزيزي القارئ أنني اكتشفت تلك الكارثة في الصف "الأول الإعدادي"، وأيضاً كنت من الذين لا يستطيعون قراءة اللغة الإنجليزية، وحينها وقفت قليلاً مفكراً فيما حدث حتى أصل أنا وأصدقائي إلى تلك البقعة، هل الخطأ يقع على عاتق المعلمين أم على النظام التعليمي بأكمله أم علينا نحن؟

"من الغريب أن الطفل صاحب الثلاثة عشر عاماً الذي وقف مفكراً حينها فمن المخطئ هو ذاته الشاب العشريني البائس الذي يكتب ذلك المقال توثيقاً لما مر به في تلك الفترة". 

المعلم الذي كان يأتي ليقرأ لنا ما هو في الكتاب حتى تنتهي  "الحصة" وينصرف إلى العدم كما جاء منه، أم من وضع لنا "النظام التعليمي" الذي يقوم على توظيف أشخاص تحت مسمى "معلمين" فقط كل مهامهم هي قراءة ما في الكتب للطلاب بدون اكتراث إلى مدى فاعليتها وتأثيرها على وعي الطالب، أم نحن لأننا لم نعط التعليم مساحة كافية لنعي ما يخبرنا المعلمون به؟

قف للمعلم!

وأتذكر أنه في سنة من السنين كنت في "درس خصوصي" للغة الإنجليزية، وبدأ المعلم في توزيع ورقة "امتحان" علينا واحداً تلو الآخر، حتى جاءت الورقة الملعونة أمامي، حينها لم أفكر جدياً في محاولة قراءة ما تحمله سطورها من معان، لأنني كنت أعرف جيداً أن محاولاتي ستفشل مهما فعلت، فقط التزمت الصمت حتى مر من الوقت المحدد حوالي خمس عشرة دقيقة ثم بادر المعلم بسحب الورقة من أمامي، لا شك أنه يعلم جيداً بحالي، وعلى الرغم من ذلك كان يأخذ "أتعابه" كل شهر بضمير مستريح.

وأيضاً لا يسعني نسيان معلم مادة "العلوم" الذي كان دائماً ينادينا بأسماء فتيات لسبب مجهول، وبالطبع لم تخل حصته من المزاح والضحك والفوضى.

وأيضاً المشرف الاجتماعي الذي كان دائم النصح والإرشاد والتوعية بالبعد عن السجائر، لأنها مضرة، لكن في الحقيقة كان يخبرنا ذلك وهو ينفث دخان السجائر.

لكن كل هذا لا يطغى على تفوقي في الدراسات الاجتماعية، ولا يمحو ما حدث معي في إحدى المراجعات المدرسية حين كنا على مشارف امتحانات "الفصل الدراسي الأول". 

 كانت معلمة "مادة الدراسات الاجتماعية" تجلس أمامنا لمراجعة المادة، حينها كنت أجلس في المقعد الأخير بجانب "أصدقائي الفاشلين"، كانت تطرح الأسئلة على الجميع عدا المقعد الذي نفترشه، لأنها كانت تعتقد أنها لن تجد أي فائدة من حثالة المدرسة. 

 حتى سألت سؤالاً لم يستطع أحد الإجابة عليه، ولما رأيت ذلك المشهد المشين لأجد نفسي أجيب عليه بطلاقة، إضافة إلى ذلك أنني قد قمت بشرح أغلب الأحداث التي ذكرت في كتاب التاريخ، وأجبت على جميع الأسئلة، وكل ذلك في دقائق معدودة لأجدها محدقة بي وعلى وجهها معالم الصدمة والانبهار.

"لا أستطع أن أخبئ عليك عزيزي القارئ أن ذلك الموقف كان بمثابة شفاء مؤقت لفكرة أنني تعرضت للظلم في حياتي الدراسية". 

وصرخت قائلة "ولا يا جاد أنت معايا في المجموعة من النهارده".

معلمة اللغة الإنجليزية

وجاء اليوم المشهود حين جاءت السيدة الثلاثينية معلمة  "اللغة الإنجليزية"، عم الصمت قليلاً، وبدأت في الطواف حول المقاعد وبين الطلاب لكي تلاحظ أن هناك طالباً ينظر إلى مؤخرتها في خلسة حينها لم أجد رد فعل عنيف تجاه الفتى "حديث البلوغ"!

لأجدها تلتزم الصمت بضع ثوان لتبدأ في التحدث عن الجنس والعادة بشكل عقلاني ليس بمباشر ولا بسطحي وعن كيفية الاغتسال من الجنابة، وكانت تحاول إيصال فكرة أن الجنس ليس بكل شيء وليس صحيحاً أن يكون هو الغاية الوحيدة الأبدية، لتكمل حديثها قائلة  بأنه بعد مرور فترة من الزواج وكثرة العلاقات الجنسية تحدث حالة من الضجر مستعينة بمثال علاقتها بزوجها. 

كل هذا وأنا جالس أراقب المشهد متمعناً في وجوه الطلاب الجالسين المهتمين بشكل كبير بحديث المعلمة، وأكاد أجزم بأن هذا المشهد لم يحدث من قبل "حين يأتي معلم ويتحدث وأجد رفقاء الفصل جميعهم يهتمون لأمر حديثه حقاً لم يحدث أن يكترث طالب بما يقوله المعلم". 

ومن الأكيد أن هذا الحديث محفور في ذاكرة أغلب من كان حاضراً وشاهداً عليه، ومكنون الفكرة هنا ليس في مجرد مُعلمة تتحدث مع طلابها عن الجنس بالفكرة في أن هذا الموقف في كفة والنظام التعليمي بأكمله في الكفة الأخرى وبالطبع ستكون كفة الجنس هي الرابحة.

لا صوت يعلو فوق صوت العِصيّ

وبعد مرور السنين وتضاعف الشعور بالظلم تفاجأت بحدوث احتجاج طلاب الصف الأول الثانوي أمام وزارة التربية والتعليم بسبب فشل منظومة "التابلت" التي فرضها الوزير على الطلاب والسقوط المتكرر للنظام الإلكتروني، وربما هذه من الأشياء المبشرة باستمرار وجود من يطالبون بحقوقهم المشروعة. 

 لكن ما حدث حينها لم يكن متوقعاً، لأنه تم الهجوم على هؤلاء الطلاب من قبل قوات الشرطة وانهالوا عليهم بالضرب المبرح، لك أن تتخيل ثلاثة رجال ممسكين بطفل يطالب بحقه بسلمية تامة منهالين عليه بالضرب بالعصي، أو تلك الفتاة التي بادر الضابط بتكتيفها من الخلف مع عدم مراعاة أنها فتاة أو حتى مراعاة المسافة بينه وبينها، لأن ما ظهر في الصور يفضح كل شيء.

"لكن لا يسعني سوى أن أقول إن هذه هي طبائع الأمور في هذا الوطن المجيد، لا صوت يعلو فوق صوت العصي". 

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

أحمد جاد
كاتب مصري
مدون سياسي مستقل وعضو منظمة العفو الدولية
تحميل المزيد