إن هذا الكتاب من تأليف المؤرخ الأمريكي الراحل "كرين برينتن" (1898-1968)، ويعد مؤلَّفه هذا من أبرز الأدبيات التي عُنيت بتفكيك الثورات وسبر أغوارها. وبمنأى عن التعريفات المتضاربة لمفهوم الثورة يحيل هذا الأخير إلى حدوث تحول أو تغيير جذري على الصعيد السياسي أو الاجتماعي أو الثقافي…، ومن ثم فإن حدوث ثورة لا يتطلب بالضرورة إطاحة حكومة قائمة جراء انتفاضة شعبية، بالنظر إلى إمكانية انبثاقها من صلب المنظومة الحاكمة نفسها، كثورة الميجي باليابان خلال النصف الثاني من القرن 19. غير أن المؤلف ركز دراسته في كتابه القيم هذا على المفهوم الضيق للثورات، الذي يشير إلى "الاستبدال العنيف والمفاجئ لطبقة حاكمة بطبقة حاكمة أخرى"، بالاستناد إلى أربعة نماذج رئيسية: الثورة الإنجليزية (1640)، الثورة الأمريكية (1775)، الثورة الفرنسية (1789)، الثورة الروسية (1917).
الإرهاصات الأولية لحدوث الثورات
أورد الكاتب جملة من العلامات الأولية لحدوث الثورات، وفي مقدمتها جوانب الضعف الاقتصادية والمالية التي تعاني منها الحكومات، فقد شكل الصراع على الضرائب بين أسرة آل ستيوارت الحاكمة والبرلمان الإنجليزي المتألف في جله من النبلاء إحدى أهم عوامل حدوث الثورة الإنجليزية. وفي نفس المنحى يجادل بعض المؤرخين بأن الدافع الأساسي للآباء المؤسسين للولايات المتحدة كان اقتصادياً ومالياً، بينما يقللون من دور الأيديولوجيا والقيم في الثورة الأمريكية القومية. وفي المقابل، يرفض الكاتب تبني وجهة النظر القائلة إن أوضاع البؤس الاجتماعي تعد مؤشراً حاسماً نحو التعجيل بحدوث الثورة، هذا في حين يؤكد على عامل شعور الفئات الموسرة اقتصادياً (كالتجار الأمريكيين)، بأن الظروف القائمة تعيق نشاطهم الاقتصادي ومكاسبهم المادية.
كما لا يغفل الكاتب عن عامل تحول ولاء المفكرين الذي يهيئ لحدوث الثورات، فالثورة الفرنسية مدينة إلى حد بعيد لإسهامات فلاسفة عصر التنوير الفكرية، على غرار فولتير وروسو ومونتيسكيو، وهو ما ينسحب أيضاً على الثورة الروسية، التي تدين بالفضل إلى الأدب الروسي، وبخاصة في أواخر القرن 19 وبدايات القرن 20، لكونه حرص على تعرية مكامن الخلل بالمجتمع القيصري في روسيا. ولعل أكبر إسهام للمفكرين يتجسد في منحهم ما يمكن تسميته بإغراء المثل الأعلى الثوري، عن طريق رسم حدود فاصلة بين المجتمع المنشود الذي تتحقق فيه المثل الثورية والواقع المزعج والمعيب.
وإلى جانب ذلك، يبرز التفسير الطبقي لحدوث الثورات، والذي يحيل إلى بعدين أساسيين، أولهما إمكانية حدوث انقسامات داخل الطبقة الحاكمة نفسها نتيجة لتكون شعور لدى بعض أفرادها بالتعاطف مع المطالب الثورية، أو من منطلق دافع براغماتي صرف، حين تعزز المؤشرات القائمة فرضية انتصار الثورة وسقوط الطبقة الحاكمة. أما البعد الثاني الذي يشير إليه الكاتب فهو العداوات الطبقية أو الصراع بين الطبقات بلغة الأدبيات الماركسية، والذي يبلغ أوجه، بخاصة عند انسداد إمكانية الحراك الاجتماعي حين لا تكون المهن والفرص مفتوحة أمام أصحاب المواهب، وإنما يشغلها فقط ذوو الأصول الاجتماعية النبيلة، ما يفسر العداء الذي كان يُكنه البورجوازيون للأرستقراطيين المالكين للأراضي.
دوافع القادة الثوريين وتدرّج السيرورة الثورية
في معرض تمحيصه للخلفية الاجتماعية لقادة تلك الثورات الأربع، يدحض الكاتب المسلّمة التي مفادها أن الثورات تخرج من رحم الطبقات المسحوقة، أو من يسميهم بعضهم بـ"الرعاع"، فهؤلاء وإن كانوا يعدون وقوداً للثورة، غير أنهم لا يصنعونها، وهو ما ينطبق أيضاً على العديد من قادة الثورة الروسية كـ "لينين" الذي كان أبوه يشغل وظيفة مرموقة في المجتمع القيصري. كما لا يستبعد الكاتب دافع المثالية المخلصة عن القادة الثوريين الذين يتوقون إلى بناء مجتمع مغاير للأوضاع القائمة طبقاً لمثلهم الثورية. هذا ولا يمكن إغفال الدافع السيكولوجي الذي يفيد بأن الانخراط في الثورة قد يكون آلية تعويضية عن الفشل في بلوغ الطموحات والأهداف الشخصية في مجتمع ما قبل الثورة، حتى يتحقق الإشباع الشخصي لصاحبه.
وإلى جانب ذلك، تشترك تلك الثورات في معظمها في تدرج سيرورتها الثورية. فبعد سقوط الطبقة الحاكمة القديمة، يتولى المعتدلون زمام الحكم، غير أنه غالباً ما يواجهون المتطرفين الذين تكون لهم الغلبة، ولعل ما يميز المتطرفين هو تعصبهم ومثاليتهم، بحيث يشرعون في محاربة ما يصفونه بالرذائل الموروثة عن المجتمع القديم، وهو ما جسده الشيوعيون في روسيا، الذين شرعوا في تغيير العادات التقليدية للمجتمع القيصري القديم، وغرس العقيدة الشيوعية في الأجيال الناشئة. غير أن حكم المتطرفين يلقي بضغوط يصعب تحملها على الناس العاديين، الذين "تنتهك عاداتهم اليومية البسيطة، ما يجعل نهاية حكم المتطرفين حتمية، إذ سرعان ما يستعيد القادة العمليون زمام المبادرة كما حدث مع نابليون بفرنسا.
وفي الختام، يخلص الكاتب إلى أن الثورات تميل شيئاً فشيئاً إلى أن تخلع عنها رداء الراديكالية والإيمان الأعمى بالقيم المثالية، بحيث تتحول الشعارات الثورية التي كانت فيما قبل وسائل تعبئة فعالة للجماهير بمرور الوقت إلى مجرد رموز وطقوس وطنية يحتفى بها، على غرار شعار "الحرية والمساواة والإخاء" الذي رفعته الثورة الفرنسية، ووعد قادة الثورة الروسية بالمجتمع اللاطبقي. غير أن المؤلف لا يُنكر في المقابل التغييرات الإيجابية الناجمة عن الثورات، التي تدين لها المجتمعات الغربية الحالية بالفضل، في كونها منحتها الأمل في قيام مجتمع أفضل، تتحسن فيه أوضاعها المادية وحقوقها المعنوية.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.