الهوية التائهة للنظام المصري

عربي بوست
تم النشر: 2021/05/05 الساعة 10:12 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2021/05/06 الساعة 09:29 بتوقيت غرينتش
حفل موكب نقل المومياوات الفرعونية

دائماً ما يبحث النظام المصري الحالي عن هويّة أو سردية ذات طابعٍ أيديولوجيّ، يتبنّاها ويصدّرها إلى الفضاء المصري، ربما كانت عملية نقل المومياوات الفرعونية من المتحف المصري إلى متحف الحضارة محاولةً ليست فقط كَدلالة على الإنجازات وامتلاك السلطة القدرةَ والكفاءات المادية لإحياء حضارة المصريين القدماء، وتلميع وجه السلطة أمام الثقافات الدوليّة، بل للسعي إلى مدٍّ هويّاتي إلى وجدان وعقول الشعب في الداخل المصري. 

منذ تغيير نظام الحكم في مصر بعد الثالث من يوليو/تموز من عام 2013، بدأ العقل المصري في الاستماع إلى سرديّة النظام الجديد الذي تبنّاها، وهي سردية الاستثناء (1)، بوصف المفكر الإيطالي جورجو أغامبين في مجموعته "الإنسان الحرام" تحديداً في كتابه حالة الاستثناء، والتي بالضرورة تعني أن الوطن يتعرّض إلى شرٍّ ما، من فئةٍ بعيّنها، كما صنّفت النازية الألمانية اليهود في ثلاثينات القرن الماضي، بأنهم أهل الشر، كما في مصر يحذر الرئيس السيسي المصريين منهم في جلّ خطاباته. 

في الوقت الحالي تعالت سردية الاستثناء بالمقابل تقلّصت الهوية الإسلاميّة التي كانت قد شغلت فضاءات عديدة مُتشعبة في الاجتماع المصري إبان صعود الإسلاميين الدعويين والحركيين بعد ثورة يناير/كانون الثاني وحتى الانقلاب على حكمهم. لكن النظام المصري، ومشروعه السياسي لا يمتلك أي أيديولوجيا بعينها، ربما يمتلك أحلاماً تنمويّة ماديّة، كالجمهورية الثانية التي يوُعد المصريين بها، لكنّه لا ينتمي إلى المشروع العروبي بوجهته المعادية للإمبريالية الذي تبنّاه الرئيس الراحل عبدالناصر، ولكنه أيضاً لا يهمل تاريخ العسكريين من قبله، بل يسترجعه في كافة المناسبات الوطنية. 

فكيف شكّل النظام المصري سرديته خلال الأعوام الفائتة؟ 

سردية الاستثناء

سُرعان ما أعلن الرئيس المصري الحالي عبدالفتاح السيسي بعد انقلاب 3 يوليو/تموز عن الحالة الاستثنائية التي تواجهها البلاد، فكانت أوّل مطالبه للجماهير المصرية المُلتفّة حوله بعد أن خلّصهم من حكم الإخوان المسلمين، أن يتَجمهروا في نفس الشهر تحديداً يوم 26 يوليو/تموز، فيما يعرف بيوم التفويض، لكي يفوّضوه لمحاربة الإرهاب المحتمل والقائم في البلاد. كان ذلك أول إجراءات سردية الاستثناء التي تبنّاها نظام السيسي. وبعد ساعات من نزول الحشود إلى الشوارع متغنّيةً ورافعة صور القائد الجديد، نفذت قوات الأمن المصرية ما عُرف بمذبحة المنصة في حقّ معتصمي ميدان رابعة العدوية، والتي أسفرت عن مقتل العشرات وإصابة المئات من المعتصمين، تمهيداً للمذبحة الأكبر يوم 14 أغسطس/آب الذي فُضَّ فيه الاعتصام بعد مقتل المئات وإصابة واعتقال الآلاف، ليبدأ النظام بعد ذلك كافة أشكال وألوان القمع. 

كانت تلك المجازر الذي نفّذها النظام المصري في حقّ معارضيه خطوةً عمليّةً لتطبيق الاستثناء الذي ظهر جليّاً في جُلّ خطابات الرئيس بعدها، التي تمحورت حول مواجهة الدولة المصرية لما سمّاهم "أهل الشر" مستفيضاً بوصفهم الجماعات الإرهابية ومن يموّلهم داخلياً وخارجياً، ملمّحاً إلى جماعة الإخوان تارة، وأُخرى إلى تنظيم الدولة الإسلامية في سيناء، وبعض القوى الخارجية متمثلة في الدول التي تستضيف المعارضين في الخارج.

لم يكتفِ النظام المصري بطرح سردية الاستثناء في الخطابات أو في الإجراءات القمعية، المتمثلة في الاعتقالات بشكلٍ لا نهائي، والقتل خارج القانون، أو الإجراءات القانونية، مثل تجديد قانون الطوارئ كل ثلاثة أشهر، أو تعديل بعض مواد الدستور، بل كانت تلك السردية حاضرة دائمة في الأعمال السينمائية والتلفزيونية، مثل فيلم جواب اعتقال عام 2017، وفيلم الخلية عام 2017. أيضاً أعاد النظام المصري تشكيل الأحداث التاريخية مرّةً أُخرى في الأعمال الفنية في شهر رمضان، كان مسلسل الاختيار بجزئيّه الأول والثاني، في عامي 2020 و2021 دليلاً شاملاً لسرد الحدث التاريخي للعقل المصري مرّةً أخرى، ولكن الحدث من وجهة نظر النظام المصري، مؤطرةً في شكلها الفني، يمثلها أفضل نجوم السينما المصرية. سردية فنية توضّح كيف عاشت الدولة المصرية في الأعوام الماضية وسط هذا الكمّ الهائل من الأفكار والجماعات والأفكار المتطرفة، ما جعلها تُشرعن القوانين لمحاربة هذا الغول الإخواني وداعميه الساعي لتفكيك الدولة المصرية وقتل وحكم الشعب المصري عُنوةً. 

النظام يبحث عن هُويّة

عاشت مصر في كل حقبة زمنية هويةً غير محددة بالكامل ملامحها، لكن كانت هوية تُنسب إلى النظام القائم على الحكم. مثل الحقبة الملكية الأخيرة الذي عاش الشعب فيها أجواءً ليبرالية إلى حد كبير، إلى أن قامت الجمهورية وتولى الضباط الأحرار نظام الحكم، ليظهر المشروع العروبي والقومي المناهض للاحتلال والإمبريالية الذي تبنّاه جمال عبدالناصر. مِن بعد ذلك، أي في حقبتي السادات ومبارك، لم يتبنَّ الاثنان أي أيديولوجية فكرية، بل كان عصر السلام استراتيجيةً نظامية لاستقرار نظام الحكم، مع التوسّع التنموي، والرؤية النيوليبرالية للاقتصاد المصري، وتجميد المناخ السياسي عن طريق القمع والاستثناء. 

عوّض الغياب الهويّاتي النظامي لهاتين الحقبتين الوجود المجتمعي، مُلتفاً بشكل كبير حول جماعات الإسلام السياسيّ، الجماعات السلفية الدعوية، الجماعات الصوفية، جماعة الإخوان المسلمين. أصبح المدّ الهوياتي بمثابة صحوة للمجتمع الذي تبنى الكثير من المظاهر والأفكار الدينية، ذلك برفقة ظهور منظمات المجتمع المدنية، المتمثلة في جمعيات حقوق الإنسان، فضلاً عن وجود بعض الأحزاب الليبرالية واليسارية والناصرية القديمة على الهامش السياسي. 

جاء النظام المصري الحالي ليقصي الإخوان ورفقاءهم الإسلاميين من الحكم، لكنّه لا يمتلك سوى سردية الاستثناء كهوية يُلبّسها للوِجدان الجمعي المصري. بعد ذلك وقف النظام المصري حائراً وسط الاجتماعات المصرية المتباينة، التي تمتلك هويات إسلامية، حركية، دعوية، صوفية، تقليديّة، بقايا اليسار، موجة ليبرالية تسعى للامتداد، الإرث الفرعوني، الذي يعتقد الكثير أنّه بصورة أو بأُخرى أن الإنسان المصري الحالي ينتمي نسله إلى قدماء المصريين منذ آلاف السنين، مفتخراً بالحضارة المصرية ومِعمارها الماديّ الضخم. 

ركّز النظام المصري منذ قدومه على فرض استقراره عن طريق الآلة القمعية الإقصائية لكل القوى المعارضة له، كشيءٍ أوّلي، ومن ثمَّ بدأ في إظهار وتنفيذ مشروعه التنموي، المتمثل في بناء المدن الإدارية والصيفية الجديدة، القطارات السريعة التي تربط بينها، مراقبة وحوكمة الاقتصاد غير الرسمي، فرض وزيادة الرسوم والضرائب على كافة الإجراءات التي تخص المواطن المصري في التجارة. أعمال قليلة هي التي خصّ بها النظام سرد هويّة له، في الأعمال الفنية لم يظهر ذلك سوى في فيلم المَمر، عام 2020، الذي استرجّع فيه النظام المصري بطولات العروبة، اسبتسال القوات المسلحة المصرية في سبيل تحرير الأراضي المصرية من الاحتلال الصهيوني إبان حرب الاستنزاف بعد نكسة يونيو/حزيران 1967، وقد وصَّل الفيلم الرسالة التي يكررها النظام كثيراً، أن الجيش المصري هو المُخلّص والمنقذ والحامي للدولة والشعب المصري. 

مرة أُخرى، ومؤخراً عندما أشرف الرئيس المصري بنفسه على نقل المومياوات الفرعونية من المتحف المصري إلى متحف الحضارة، وسط قدرة وكفاءة ممتازة، لإحياء حفل عظيم على أوركسترا الأوبرا وترانيم فرعونية قديمة، يحضره الأكاديميون، الفنانون، المُختصون، والمسؤولون من كل مكان. أظهر ذلك تعزيزاً كبيراً للهوية التي تنتمي إلى الحضارة المصرية القديمة، فهنا مصر ليست إسلامية، أو ليبرالية، أو عروبيّة، بل مصر فرعونية. 

لكن، في غالب الظن لن نرى النظام المصري يُمجّد الهُوية الفرعونية مرةً أُخرى، كان الغرض الرئيسي إثبات قدرة السلطة الإدارية في إدارة الحفل، بالإضافة إلى تلميع ريادتها الثقافية أمام المنظومة الغربية المُولعة بعلم المصريات؛ لذا تجد النظام على مرِّ سنواته الفائتة تائهاً بلا هُوية ثابتة، بل يتنقل بين حضارةٍ مادية قديمة، وعروبة مضت وانتهت باتفاقيات السلام، وإسلام فُصص وبُعثر بين الجماعات السياسية، ومؤسسات رسمية وغير رسمية.. وقمع واستثناء حاضر لا ينقطع. 

هوامش: 

1- حالة الاستثناء: هي الحالة التي يُعطل فيها القانون من صاحب السيادة، في حالات بعينها تمر بها البلاد. يرجع أول تعريف لما يعرف بحالة الاستثناء للمفكر الألماني كارل شميث وهو ما عرّفه أنه بيد السلطة السيادية تطبيق حالة الاستثناء عند مخاطر بعينها في كتابه اللاهوت السياسي، وقد نُوقش هذا المفهوم على أمثلةٍ وأحداث تاريخية وقعت بواسطة المفكر الإيطالي جورجو أغامبين في كتابه حالة الاستثناء في مجموعته المعنونة بـ"الإنسان الحرام". انظر: جورجو أغامبين، حالة الاستثناء، ترجمة ناصر إسماعيل، مدارات للنشر والأبحاث، ط1 – 2015، ص 39.

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

أحمد عبد الحليم
كاتب وباحث مصري في قضايا السياسةوالاجتماع
كاتب وباحث مصريّ، له العديد من المقالات والدراسات والتحقيقات المنشورة باللغتين العربيّة والإنجليزيّة في عدد من المؤسّسات البحثية والمنابر العربية. مؤلّف كتابي «الحارة العربيّة» و«أجساد راقصة»، صدرت عن دار الجديد، بلبنان عام 2021.
تحميل المزيد