المؤسسة العسكرية والسياسة: وأزمة النموذج العلماني الفرنسي

عربي بوست
تم النشر: 2021/05/05 الساعة 02:34 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2021/05/06 الساعة 10:50 بتوقيت غرينتش

من دون شك ولا تردد، يمكن أن نصنف بيان قادة متقاعدين من الجيش الفرنسي، بأنه حدث كبير، ويحتاج لوقفة تأمل حول طبيعة النقاشات الداخلية التي تجري بشكل غير معلن داخل الدولة الفرنسية.

من حيث تركيبة الموقعين على العريضة، فالأمر لا يتعلق فقط بقيادات متقاعدين في الجيش، وإنما يتعلق أيضا بآخرين لا يزالون قيد الخدمة، ثم إن الأمر يتعلق بدرجات ورتب عسكرية متفاوتة داخل الذين وقعوا هذه العريضة، بل وبمسؤولين كبار كانوا يشغلون رتبا عسكرية عالية في الجيش الفرنسي بين جنرالات وضباط.

من حيث الجهة التي فضلوا نشر المقالة فيها، أي مجلة (فالور أكتييل)، ففهي تتبنى خطا تحريريا ليبراليا محافظا، وهذا معطى هو الآخر يحتاج تفكيك إشارته.

المعطى الثالث، والذي يعتبر أكثر أهمية، هو مضمون المقالة، التي تحذر الحكومة الفرنسية من الفوضى والتفكك الذي تشهده فرنسا، ومن المخاطر التي يشكلها المهاجرون على هوية فرنسا ومبادئها الجمهورية، وتعلق المشجب على خطر "الإسلاموية" الذي يخترق الضواحي ويفصل أجزاء من الدولة الفرنسية ويحولها إلى أرض مناهضة للدستور".

بعض السياسيين التقطوا الإشارة، وأدركوا خطر مثل هذه المبادرة، وتهديدها للنموذج الديمقراطي الفرنسي، فالجيش مكانه الثكنات، لا التدخل في شؤون السياسة، وإذا كانت مثل هذه الظاهرة تجري في الدول المتخلفة، فإن حصولها في فرنسا، يمس بشرفها وصورتها الديمقراطية، ولذلك، ما عدا اليمين المتطرف، التي سارعت زعيمة تياره، مارين لوبين إلى دعم هذه العريضة، فلم يختلف موقف الطيف السياسي الفرنسي في التنديد بمضمون هذه العريضة، وتهديدها لأسس الجمهورية، وللنموذج الديمقراطي الفرنسي.

بل حتى المؤسسة العسكرية في شخص قائد الأركان الفرنسي فرانسوا لوكوانتر، لم يختلف موقفها عن موقف مختلف الطيف السياسي، واتجهت في انسجام مع الدستور الفرنسي ومع قواعد النموذج الديمقراطي الفرنسي، إلى إدانة هذا الفعل، وتوعدت بإنزال اشد العقوبات في حق أصحاب الرتب العالية، وعقوبات أخف على أصحاب الرتب المتدنية من الموقعين على العريضة.

قد تبدو هذه الإشارات متناقضة، فالمؤسسة العسكرية وغالبية الطيف السياسي، ما عدا تيار اليمين المتطرف، يقفون على خط مبادئ الجمهورية، ولا يسمحون بأن ينتقض النموذج الديمقراطي الفرنسي، ويتم السماح للجيش بالتدخل في الحياة السياسية، لكن في المقابل، إذا تم ملاحظة مضمون المقالة، والعناصر والحجج التي تتضمنها، فهي لا تختلف في شيء عن رؤية ماكرون التي طرحها في مواجهة ما أسماه بخطر الإسلاموية، فثمة طَرْقٌ سياسي وإعلامي كثيف على قضية الخطر الإسلاموي، بل الأمر لا تعلق بمجرد تحذير من هذا الخطر، وإنما تجري على الأرض إقرار سياسات عنصرية متلاحقة، تستهدف  بشكل تمييزي المسلمين دون غيرهم من المواطنين الفرنسيين.

أي في المحصلة، لا وجود لخلاف من حيث الجوهر والمضمون، بين ما طرحته المقالة/ العريضة، وبين الرؤية التي يحملها غالبية الطيف السياسي الفرنسي لموضوع الإسلام، أو الإسلاموية،  وإنما المشكلة في الشكل، فالرئيس ماكرون ومعه الحكومة الفرنسية، يريد أن تتم عملية المواجهة بالطرق القانونية، وباحترام تام للأطر الشكلية  والمسطرية في القانون، بينما، ترى المقالة/العريضة،  أن هناك عائقا كبيرا، يحول دون المضي بالسرعة القصوى في هذا الاتجاه، وهو الذي يتعلق بتهمة العنصرية،  فالخوف من اتهام الحكومة الفرنسية بالعنصرية،  في نظر أصحاب المقالة/العريضة، يبطئ فعالية الاستراتيجيات اللازم اعتمادها من أجل مواجهة الخطر الإسلاموي، وأن مراعاة هذه القضية، يخلق جوا من الانتظارية تستفيد منه الإسلاموية، لمحور الهوية والتاريخ الفرنسي.

لننتبه أن المقالة/ العريضة، لم تنشر في مجلة يمينية متطرفة، بل أصر أصحابها على نشرها في مجلة ليبرالية محافظة، أي أنهم، يريدون بذلك، أمرين، أولا، أن ينفوا التهمة الجاهزة التي ستصنفهم داخل اليمين المتطرف، والثاني، أنهم أرادوا بذلك، توجيه خابطهم لمختلف الطيف الفرنسي، بما في ذلك الطيف الفرنسي المحافظ الليبرالي.

تحليل هذه المعطيات، يشير إلى وجود معضلة داخل الدولة الفرنسية، تتعلق بالتعاطي مع المسلمين ومع "الإسلاموية" وأن الخلاف بين أجنحة الدولة حول ضمان النجاعة لاستراتيجيات المواجهة قد خرج عن  حدود السيطرة، وأن هناك حالة من التذمر واليأس والإحباط لدى أجنحة داخل الدولة الفرنسية، لا تطمئن إلى فعالية سياسات الرئيس وحكومته في مواجهة هذه المعضلة،  وأن هذا التذمر وصل إلى المؤسسة العسكرية،  وهذا ما يفسر العدد  الكبير الموقع على العريضة من قادة الجيش المتقاعدين والذين لايز الزن في الخدمة من مختلف الرتب بما في ذلك الرتب العالية.

البعض يعتقد أن المشكلة، تكمن في التطرف الإسلامي في فرنسا، لكن الأمر، يتجاوزه إلى مشكلة فرنسية مع الإسلام، تمليه اعتبارات استراتيجية، لم تعد الدولة الفرنسية قادرة على تقديم جواب عنها.

ففرنسا، حسب الدراسات المسحية التي قدمها مركز بيو الأمريكي، (حسب دراسة نشرها في موقعه بتاريخ 29 نوفمبر 2017) إلى جانب ألمانيا، تستوعب أوسع ساكنة من المسلمين في أوروبا. ففي منتصف سنة 2016، كان المسلمون في فرنسا يشكلون ما مجموعه 5.7 مليون نسمة، أي بنسبة بنسبة 8.8 في المائة من مجموع الفرنسيين، وتشير الدراسة إلى أن نسبة المسلمين بالقياس إلى الساكنة في أوربا تتزايد، وهي مرشحة للتزايد أكثر في العقود المقبلة، وأن نسبة التزايد تفوق نسبة تزايد الأوروبيين، فالمسلمون ما بين منتصف 2010 و2016 ـ حسب ما تفيد الدراسة ـ تزايدوا أكثر من نقطة في النسبة، وذلك من 3.8 في المائة إلى 4.9 في المائة، وذلك من 19.5 مليون إلى 25.8 مليون، وأنه مع سنة 2050، يتوقع أن تتضاعف نسبة نمو المسلمين وتحقق 11.2 في المائة، أو أكثر بحسب وضعية الهجرة إلى أوروبا وهل تسمح بها، لاسيما وأن  أكثر المسلمين من فئة الشباب، وأن نسبة الإنجاب بينهم تفوق نسبة الإنجاب عند الأوربيين. والمثير في هذه الدراسة، هي أن غالبية المجتمع الفرنسي، لا تحمل نظرة سلبية اتجاه المسلمين رغم وجود مؤسسات إعلامية ونخب حزبية تقف وراء ثقافة التحريض ضد المسلمين.

الدراسة طرحت ثلاث سيناريوهات بحسب طبيعة الهجرة (المحدد الأساسي في تزايد المسلمين) السيناريو ألأخف، وهو أن يصل عدد المسامين في ظرف ثمان سنوات (أي سنة 2025) " إلى 8.6 مليون في حالة الهجرة الصفرية، والسيناريو المتوسط أن تكون زيادة المسلمين بنسبة 17.4% أي ما يعادل 12.6 مليون شخص، والسيناريو المخيف، هو أن تحصل الزيادة بمعدل 18% وبتعداد 13.2 مليون شخص.

لحد الآن، ليس هناك معطى موثوق حول عدد المسلمين في فرنسا يوضح أي السيناريوات اتجهت إليها زيادة المسلمين في فرنسا، فوزارة الداخلية الفرنسية هي وحدها من يملك هذا الرقم، وهي تمنع القيام بأي إحصاء للمسلمين، بحجة أن ذلك مخالف للقانون، بحكم أنه يثير حساسية عنصرية.

تحليل المقالة/ العريضة، مع سياسات ماكرون العدائية ضد الإسلام، بارتباط مع هذه المعطيات الديمغرافية، يشير إلى أن فرنسا، تواجه السيناريو الثالث المخيف، وربما تواجده ما هو أسوأ منه، ولذلك، فالتقدير أن الخلاف قد فتجر داخل أجنحة الدولة الفرنسية حول هذا الموضوع، وأن هناك جهات فقدت الصبر من جراء القيود التي تفرضها الدستور والبيروقراطية القانونية في مواجهة هذا السيناريو.

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

بلال التليدي
كاتب ومحلل سياسي مغربي
كاتب ومحلل سياسي مغربي
تحميل المزيد