لاتزال كرة القدم العالمية تشكل النشاط الوحيد الذي حافظ على استمراريته في زمن كورونا، حتى بدون جمهوره، رغم الصعوبات والمخاطر الصحية والخسائر المالية الكبيرة. ذلك في تحدٍّ متواصل لم تقدر عليها باقي النشاطات الإنسانية التي تأثرت بجائحة أودت حتى الآن بحياة أكثر من ثلاثة ملايين إنسان، وأصابت أكثر من 150 مليون شخص حول العالم، كما حطمت اقتصادات دول ومعنويات الناس، وخلفت آثاراً مسّت كل المجالات الصحية والاقتصادية والتجارية والسياحية والفنية والثقافية، وحتى السياسية. وانعكست سلباً على حياة الإنسان ومستقبل الأسر والمؤسسات والحكومات والدول والأمم. ولا تزال التداعيات مستمرة، والخسائر البشرية والمادية تتضاعف كل يوم بشكل لم يخطر على بال أحد ولا يمكن توقع تداعياته في المستقبل رغم حملات التطعيم ضد الفيروس التي شهدها العالم منذ بداية السنة.
صمود كرة القدم
كرة القدم صمدت ونشاطها استمر رغم تأجيل وإلغاء بعض المسابقات المحلية والقارية والدولية، بل بالعكس لجأ أصحابها في أوروبا الى التفكير في مسابقة جديدة أطلق عليها "السوبرليغ" الأوروبي في محاولة لإنعاش خزائن الأندية الكبيرة بأموال إضافية تسمح لها بمواجهة الأزمة المالية والرهانات المستقبلية التي تقتضي مزيداً من الإنفاق في ظل تراجع المداخيل خاصة بسبب تراجع عائدات حقوق البث التلفزيوني والإشهار، وغياب الجماهير عن مدرجات الملاعب والذي كلف الأندية العشرة الأكثر دخلاً في أوروبا خسائر بلغت ثلاثة مليارات دولار، من أصل 12 مليار دولار خسائر إلغاء وتأجيل المباريات والبطولات والتي قدرتها الفيفا في عالم الكرة مع بداية السنة الجديدة، دون احتساب الخسائر غير المباشرة سواء كانت مادية أو معنوية وحتى بشرية.
الاتحاد الأوروبي من جهته فرض على المدن التي تستضيف نهائيات "اليورو" المقبل السماح للجماهير بحضور المباريات لإعادة بعث الروح فيها والحصول على بعض المداخيل رغم تفشي الوباء بشكل كبير أدى إلى إصابة مليون و200 ألف شخص في أوروبا وحدها. بالإضافة لحدوث 120 ألف حالة وفاة في خاصة في إنجلترا معقل الكرة التي بلغ فيها عدد الوفيات 125 ألفاً، وإيطاليا 119 ألفاً، ثم فرنسا بـ100 ألف حالة وفاة، و88 ألف حالة في ألمانيا، و77 ألف حالة في إسبانيا، وهي البلدان التي تحتضن الخمس دوريات الكبرى في أوروبا التي لم يتوقف فيها النشاط الكروي رغم غياب الجماهير، بل أصرت الحكومات على استمراره لأنه بات الوسيلة الوحيدة للترفيه على الناس في غياب كل النشاطات السياحية والثقافية الأخرى، لتتحول الكرة عندهم إلى سلاح مقاومة وليس مجرد وسيلة ترفيه وتسلية لشعوب مخنوقة نفسيا ومهزوزة مادياً، ومهددة صحياً.
تغييرات جوهرية
انتشار وباء كورونا لم يوقف النشاط الكروي لكنه أحدث تغييرات جوهرية في الخريطة الكروية الأوروبية التي صار فيها حامل اللقب في إنجلترا نادي ليفربول مهدداً بالغياب عن مسابقة دوري الأبطال الموسم المقبل بسبب تراجع نتائجه الفنية التي قد تحرمه من التواجد ضمن الأربعة الأوائل في ظل أزمة فنية ونفسية ومادية، زادتها تعقيداً غياب الجماهير عن ملعب الأنفيلد الذي خسر فيه الريدز سبع مباريات هذا الموسم، في وقت فرض مانشستر سيتي سيطرته تجسيداً لمقولة مدربه بيب غوارديولا بأن الذي يملك المال هو الذي يحقق الألقاب، وهو الذي تحقق فعلاً لأن الفريق حافظ على كوادره، ولا يزال يستقدم النجوم بسبب البحبوحة المالية التي يعيشها وسمحت له ببلوغ نصف نهائي دوري الأبطال والتتويج بلقب الدوري وكأس رابطة الأندية المحترفة.
نفس الأمر الذي تعرض له ليفربول في إنجلترا حدث لليوفي في إيطاليا الذي ضيّع تاجه الذي فاز به 9 مرات متتالية، لصالح الإنتر الذي يملك المال والزاد الفني البشري الذي سمح له بالتتويج للمرة التاسعة عشرة في تاريخه، والأول منذ 2010 أمام اليوفي والميلان ونابولي وأتلانتا وروما ولاتسيو التي كانت متقاربة جداً في مستوياته هذا الموسم في غياب الجماهير عن مدرجات الملاعب وهي التي كانت تصنع الفارق بحضورها وتشجيعاتها لنواديها محلياً وأوروبياً. حتى إن اليوفي لم يقدر على تخطي دور الثمانية في دوري الأبطال للموسم الثاني على التوالي.
في إسبانيا تأثر البرسا والريال بتداعيات الوباء وغياب الجماهير وتراجع المداخيل من الناحية الفنية وحتى المادية، حيث بلغت ديون البرسا مثلاً ما يقارب المليار يورو مقابل 800 مليون يورو للريال عند نهاية سنة 2020، ما جعلهما في وضع حرج أمام أتليتيكو مدريد وإشبيلية في سباق التتويج بلقب الدوري الذي قد يضيع على الغريمين لأول مرة منذ 2014، وهي الفترة التي تقاسم فيها الفريقان كل الألقاب وكل المداخيل المالية الناجمة عن التتويجات، قبل زمن كورونا الذي قد يمنح اللقب للأتليتيكو أو إشبيلية في سابقة سيكون لها تأثير كبير على الغريمين إلا إذا تمكن الريال من التتويج بلقب دوري الأبطال وإنقاذ موسمه من الناحيتين المادية والفنية.
في فرنسا أموال الـ"بياسجي" لم تشفع للنادي الباريسي كي يسيطر على لقب الدوري مثلما حدث على مدى 10 سنوات خلت حيث أثر عليه غياب جماهيره عن المدرجات، ووجد نفسه في رواق صعب أمام ليل وموناكو وليون الذين سينافسون الفريق الباريسي إلى آخر جولة بعدما كان يحسم الدوريات السابقة قبل موعد انتهاء الموسم الكروي بأسابيع، مثلما هو الحال بالنسبة لفريق عريقة في دوريات أوروبية وعالمية أخرى، قاومت الوباء وتداعياته، وقاومت الفرق المغمورة التي استغلت الظروف لتحقيق طموحاتها التي لم تقدر عليها قبل انتشار كورونا.
الكرة وكورونا معركة أخرى مستمرة، ستخلف آثاراً جسيمة على الأنفس والمعنويات وصحة الناس واقتصاديات الأندية الكبيرة التي تتوجه نحو خسارة الألقاب وتراجع المداخيل وتضييع نجومها الذين لم يرحموا نواديهم ولو من خلال تخفيض رواتبهم بشكل رمزي.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.