الجمل والعود وسعود ودبي والأصالة والنجف والكويت والريان والسلطان والمهدي وكارون والأهواز، كلها أسماء تلمع فوق محلات بيع الزي العربي في الأهواز (جنوب غربي إيران) فشارع فرحاني في حي الدایرة الذي يعيش قمة موسمه أيام شهر رمضان هو سوق الملابس العربية للأهوازيين، إذ يضم عشرات من المعارض المخصصة للتراث واللباس الشعبي.
كثرة الطلبات هذه الأيام جعلت الفرصة ضئيلة أمام الشباب لحياكة بدلة عربية، بغية ارتداءها في عيد الفطر السعيد، حيث أصبحت موضة أزياء العيد والتفاخر بها لا تنحصر على أنه عيد ديني للأهوازيين، بل محاولة للتأكيد علی الثقافة والهوية والوطنية العربية في بلاد فارس.
ظاهرة محلات ومعارض التراث العربي رأت النور في الأهواز عند بداية القرن الـ21، ولها حكایة باتت اليوم مثالاً لمن يريد أن يبدأ مشروعه الاقتصادي الذاتي دون دعم حكومي.
شاه إيران والهوية العربية
قبل هذا التاریخ وفي القرن الـ20، عندما بنى رضا شاه مؤسس النظام البهلوي (1925–1979) الدولة الحديثة في إيران، وأطاح بالحكم الذاتي للممالك المحروسة، من ضمنها إمارة العرب بزعامة الشيخ خزعل الكعبي، من ثم فرض اللباس واللغة الموحدة علی القوميات الإيرانية، هُمّش الشعب الأهوازي وبات مفروضاً علیه التحدث بالفارسية وارتداء البدلة الإفرنجية مع القبعة البهلوية إذا ما أراد دخول عالم الحداثة والمدنية، فمنذ ذلك الوقت وحتی التسعينيات اقتصر الزي العربي علی كبار السن.
محلات الخياطة قليلة في مدن الأهواز، حتی نوع الخياطة ولون الثوب محدود باثنين أو ثلاثة، والنافذة الوحیدة للحصول علی كوفية جديدة أو عباءة حديثة أو قطعة قماش تسر الناظرين هم الأهوازيون في الكويت، حيث قبلتهم للعمل خارج إيران.
في أواسط التسعينيات تبلورت الفكرة عند الشاب الثلاثيني آنذاك، قاسم الزابي، الذي رصد الحسرة علی وجوه الأهالي، ووجد العطش للزي الرسمي مستشرياً في منطقته، فيقول عن إطلاق المشروع "كنت أتاجر في قطاع السيارات داخل مدن إيران، وعندما رأيت اللباس البلوشي في بلوشستان شرقي البلاد، ووجدت محلات البزازين جلبت القماش معي وباشرت ببيعه علی خيّاطي مدن الأهواز، كالمحمرة وعبادان والفلاحية والخفاجية والحميدية عام 1995م، بعدها بثلاث سنوات عندما بدأت تجارة القماش من مدينة دبي أطلقت مشروع الزي العربي، بتدشين محل باسم معرض دبي".
یحتوي المعرض علی الأنواع والألوان من الدشداشة والكوفية والعباءة والعقال والعطورات والخواتم والأحجار والبخور ودلال القهوة وعشرات أخری من أشياء الزينة. ولم يسبق الزابي بذلك إلا ياسر السلامي، عندما فتح محلاً متواضعاً للتراث العربي في منطقة كوت عبدالله.
نحو 25 سنة تمر علی المباشرة بهذا المشروع التجاري الثقافي، کان قد طبق قاسم الزابي مبادرته وفق معارض مدينة دبي، ولعل وصول عدد هذه المحلات إلى حوالي 300 معرض علی صعيد مدن الأهواز هو استعراض لنجاح المشروع، الذي وفّر مئات من فرص العمل المباشرة وغير المباشرة، فيترکز الاهتمام بالدشداشة لتصبح متجددة دائماً بأفکار عصرية، تجعلها علامة علی أناقة الرجل الأهوازي، وحفاظاً علی تراثه وهویته الأصيلة.
الرئيس خاتمي والهوية الأهوازية
الانفتاح علی الهوية والتفاخر بالقومية والتحدث بلغة الأم وارتداء الزي الشعبي في إيران لم يأتِ إلا في عهد الرئيس الإيراني محمد خاتمي (1997-2005)، الذي کان برنامجه الانتخابي بناء مجتمع ديمقراطي أكثر تسامحاً، وبتفعيل سيادة القانون وتحسين الحقوق الاجتماعية. ويقول الباحث في الشأن الأهوازي، باسم الحمادي، إن فترة ظهور الإصلاحيين كانت المتنفس للقوميات الإيرانية، ومنها العرب، حيث تشكلت المؤسسات المدنية للمرة الأولی بعد انتصار الثورة الإسلامية، وأُقيمت الحفلات والندوات الأدبية والثقافية والاجتماعية في قاعات وصالات الأهواز برعاية حكومية. حراك الهوية هذا لعب جسرَ تواصلٍ بين المجتمع الأهوازي، بعيداً عن دائرة المنزل والمسجد والدواوين.
ولَّد التسامح اهتماماً بالهوية لدی طلاب الجامعات والمتعلمين والموظفين والأسر العربية، الذين اعتادوا أو تأقلموا مع بيئة فارسية في محيط العمل أو الدراسة أو المدينة. وبمعنی آخر استطاع الحراك الثقافي العربي أن يمزج بين هوية المواطن وبين الحداثة والعصرنة داخل إيران، علی حد تعبير الحمادي. حتی صار المواطن أکثر جرأة علی مزاولة نشاط أدبي عربي في جامعة فارسية ما، أو مراجعة الدوائر الحكومية بزيه الرسمي، حاله حال المواطن في بلد عربي آخر، بعدما تمت توعیته بحقوقه المكفولة في الدستور الإيراني من قبل المؤسسات المدنية.
في تلك الأجواء ظهر مشروع المعارض الذي يحتوي على أزياء تلامس الحداثة بألوانها وأشکالها، ملبیة رغبة الشباب، فأصبحت الظاهرة بلورة عملیة ملموسة للفعاليات الثقافية الأهوازية في عهد الإصلاحيين، هذا رأي الحمادي عن سبب نجاح المحلات، حيث اعتبر شارع فرحاني في حي الدايرة مركزاً سياحياً حتی بالنسبة للمواطن الفارسي الراغب في التعرف علی الهوية العربية.
فالموضة اليوم لدی الشاب الأهوازي تختلف عمّا كانت علیه في التسعينيات فما قبل، حيث خياطة دشداشة عصرية وارتداؤها مع شماغ أحمر أو أزرق أو أبيض متوج بالعقال هي الإناقة، خاصة عند حلول أيام عيد الفطر السعيد والتجوال في المتنزهات أو الأسواق.
وزارة التراث تعترف بالزي العربي ثياباً للمواطن الأهوازي
رغم الاهتمام الشعبي الواسع بالزي الرسمي العربي فإن المواطن الأهوازي لم يجد زيّه ضمن قائمة ملابس الإيرانيين المعترف بها لدی وزارة التراث والسياحة، ما شکَّل هاجساً لدی مجموعة من المثقفين والسياسين العرب، للمتابعة والإصرار علی إدراج اللباس العربي ضمن أزياء المكونات الموجودة في البلاد. فتكلّلت المبادرات والمتابعات الشعبية لحفظ الهوية بالنجاح مرة أخری، وأصبح رقم 0301019 مخصصاً للباس العربي في قائمة وزارة التراث الإيراني عام 2020، ما هيّأ الفرصة رسمياً لإقامة ورشات الخياطة والتدريب، وحتی التصدير، دون ضرائب وتسلم تسهيلات بنكیة دون أرباح. ترك الحراك الثقافي شعوراً لا يماثله شيء لدی الأهوازيين، حتی استعادوا مجدداً جمالَ زيهم الأصيل المرتبط بذاتهم. فالقصة مع الدشداشة فيها کل الذکريات عن زمن کان یجمعهم بلباس موحد ولغة موحدة.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.