كانت بداية ظهور هذه الفكرة مع أفلاطون، صاحب كتاب "المدينة الفاضلة"، حيث اعتقد أن الحل الأمثل والمجتمع الأفضل ليعيش فيه البشر هو "المدينة الفاضلة"، تحكمها نخبة من الفلاسفة، وباقي المواطنين يشتغلون بأعمال تناسبهم، داخل تقسيم طبقي، وهم ثلاث طبقات، حسب طبيعة "نزعتهم"، هي: طبقة الحكام (الفلاسفة)، وطبقة المحاربين، وطبقة المنتجين وهم أدنى طبقة، لكن هذه الدولة لم تتحقق على أرض الواقع، وقد يؤدي هذا التقسيم إلى مشكلة تحول "اليوتوبيا" إلى "ديستوبيا" بسبب فصلها الطبقي شديد الصرامة.
فمشكلة الدولة الطوباوية أنها لم تحاول حل المشاكل التي تواجه الناس بكل جزئياتها وتعقيداتها، بل عملت على تخيل شكل للدولة، تركز من خلاله على نقطة معينة، كبناء مجتمع سعيد أو تشاركي أو مجتمع ديني يطيع الله، فالدولة الطوباوية تعطي نظرة موغلة في السطحية بعيداً عن إيجاد حل للمشكلة الحقيقية، وقد تكون هناك نظرة معمقة لبناء الدولة المثالية، فأفلاطون وغيره تعمقوا كثيراً في فكرة الطوباوية، ولكنهم عملوا على إيجاد حلول لمشاكل كانت محصورة في أذهانهم فقط فتنتج واقعاً مغايراً للواقع الموجود.
المثالية بعد الموت.. النظرة الدينية لفكرة الدولة المثالية
كانت نظرة الأديان للحياة على أنها مجرد اختبار، وأن الحياة ما هي إلا عبارة عن ألم ومشاق، وأن السعادة الحقيقية تكمن في الحياة بعد الموت، ولكن بشرط أن يكون الإنسان قد التزم بالعمل الصالح في حياته.
فنظرة الدين المسيحي للإنسان في الحياة، حسب القديس أوجستين، أنه ينتمي إلى دولتين؛ دولة السماء "الله" ودولة الأرض "الشيطان"، فالأرض وما عليها وما فيها هي ليست المكان الذي ينتمي إليه البشر، بل ينتمون إلى مملكة السماء، وفصل أوجستين بين دولة السماء عن دولة الأرض، وزاوج بين الدين المسيحي وأفكار الإمبراطورية الرومانية في الحكم والسياسة، فالفرد في مملكة الأرض لا حق له في الاعتراض على الحكم البشري، أو التدخل به، بل عليه أن يسلم له، وأن يعتبر الحياة الدنيا مجرد شيء زائل، وأن العدالة لا تتحقق في الحياة الدنيا.
أما الدين الإسلامي، الذي كان أيضاً يعتبر أن الحياة المثالية تكمن في الآخرة بعد الموت، ولكن الإسلام كان يختلف عن المسيحية في نظرته للحكم، فكان ينظر للحكم نظرة واحدة لا ازدواجية، فعلى الحاكم والمحكوم الالتزام بالدين والأخلاق (وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ).
ولكن الفكر الإسلامي (الحركي والحزبي) في القرن العشرين رسم صورة الخلاص في إقامة الدولة الإسلامية كحاجة ملحة في العصر الحديث لأسلمة مفهوم الدولة القومية، واعتبارها كياناً موازياً للدولة الغربية ومنافسة لها في استنادها للدين وعدله، وبهذا ضخم مفهوم الدولة في الخطاب الإسلامي لدرجة اعتبار "الدولة الإسلامية" إحدى ركائز الإيمان المفقودة في المجتمعات الإسلامية، والتي ما إن طُبقت سوف يتحقق العدل ويعم وينتهي الظلم بمجرد تطبيق الشريعة، إلا أن هذا التأويل لا يحمل إلا نصف الحقيقة؛ حيث إن الظلم والفقر والجوع شيء موجود في حياة البشر، وما قام به عمر بن الخطاب (مثلاً) ما هو إلا خطوات عملية لتقليل الظلم والفقر.
وبهذا يخالف خطاب بعض الحركات الإسلامية الحديثة التفسير الديني الذي يعتبر أن الالتزام بالأخلاق هو عامل لتنظيم الناس ورفع مستوى التكافل الاجتماعي فيما بينهم، لكنه لم ولن يصل إلى حد الكمال.
الدولة الطوباوية في عصر الحداثة
كان نيكولا ميكيافيلي من أوائل من فسر سياسة الدولة بعيداً عن الأخلاق والدين، وكان مبدؤه في تفسير السياسة على ما هو "كائن وليس على ما يجب أن يكون"، وبرر أفعال الحاكم "الأمير" مثل الخداع واستعمال العنف والخوف واستعمال الدين لإخضاع الشعب لإرادة الحاكم، وبعد أن يصل الشعب لدرجة الوعي تبنى هنا الدولة الديمقراطية المثالية، وهنا يبدأ عصر الحداثة بإعادة إنتاج فكرة الدولة المثالية على الأرض وليس في السماء، وازدادت قناعة المفكرين الأوربيين بتحقيق الدولة الطوباوية على أرض الواقع في عصر الحداثة، خاصة بعد الثورة الصناعية، حيث توالت الاختراعات والإنجازات العلمية التي أدت إلى فكرة مفادها أن الإنسان هو محور الكون، وبالتحديد الأبيض الذي يستطيع بناء الطوباوية الحديثة.
أظهرت الأفكار التي ظهرت في أوروبا ما بين القرن الثامن عشر إلى أوائل القرن العشرين مثل الليبرالية والنازية والفاشية والشيوعية أن الإنسان قادر على إعادة بناء الدولة الفاضلة، مستنداً إلى الحرية في الفكر الليبرالي، وإلى القومية والدار والتفوق العرقي في النازية، وإلى الحتمية والصراع الطبقي في الفكر الشيوعي الماركسي، لكن هذه النماذج فشلت بإقامة الدول المثالية، فالليبرالية فشلت على المستوى الاقتصادي التي أدت في النهاية لتكديس رأس المال في يد فئة محددة من المجتمع، وفشلت على المستوى السياسي أيضاً، حيث أفرزت نخباً سياسية أنهت على العملية الديمقراطية، كما حدث في ألمانيا عند صعود النازية.
وعلى المستوى الاجتماعي فشلت الليبرالية في كبح جماح المطالبين بالحرية بلا حدود، والتي أدت إلى ظهور مشاكل في كافة المجالات، ومنها انتهاك الحياة الشخصية للأفراد في الصحافة والإعلام، مما أدى إلى نظرية المسؤولية الاجتماعية؛ كما أدت القومية إلى أزمة مالية نتيجة لسياسات الاكتفاء الذاتي، وإلى ظهور الدولة الديكتاتورية، كما أدت الداروينية الاجتماعية التي تعني إسقاط نظرية التطور والانتقاء الطبيعي على العلوم الإنسانية التي تمثلت في النازية التي عملت على قتل واضطهاد الأعراق والشعوب وحتى ذوي الاحتياجات من نفس العرق الجرماني ووضعهم في معسكرات التعذيب، كما فشلت الشيوعية في الوصول إلى مرحلة نهاية التاريخ وإنهاء الصراع والملكية الخاصة، وتمثل ذلك في عدم حدوث التوقع الماركسي في حصول ثورة شيوعية في كل من بريطانيا أو فرنسا أو ألمانيا، كما انهارت دول شيوعية مثل الاتحاد السوفييتي، وفشلت دول أخرى تبنت التخطيط المركزي كسياسة لها، كما عانى ويعاني النموذج الرأسمالي من الأزمات، مما جعل الحكومات القائمة على الاقتصاد الحر تتدخل في الشأن الاقتصادي في كثير من الأحيان.
في النهاية إن الدولة المثالية أو الطوباوية لم تكن موجودة لا في الماضي ولا في الحاضر إلا في قلوب المؤمنين وعقول المفكرين وخطابات السياسيين.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.