القضاء وقوّة الدول: بين جورج فلويد وانفجار المرفأ والتدقيق الجنائي في لبنان

عربي بوست
تم النشر: 2021/04/23 الساعة 09:46 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2021/04/23 الساعة 09:47 بتوقيت غرينتش

في خضمّ الحرب العالمية الثانية، سأل مواطن بريطاني رئيس مجلس الوزراء حينها ونستون تشرشل عن وضع البلاد وهي تمرّ بفترة اقتصادية صعبة، مشيراً إلى أنّ الرشوة تطال الجميع، فتوجّه تشرشل إليه بالسّؤال عن القضاء وما إذا كانت الرشوة تشعّبت لتصل إليه، فجاوبه النّاس بأنّه بخير، فقال تشرشل: "إذاً لا تقلقوا على بريطانيا، فإنّها بخير".

يقودنا قول تشرشل هذا إلى نتيجة واحدة لا بديل عنها: أنّ القضاء أساس الأوطان وركيزتها، متى تعثّر القضاء أو ارتدى ثوب الفساد والمحسوبيات السياسيّة، سقطت الأوطان لتصبح في أوج مراحل الانهيار؛ إذ إنّ القضاء، غير أنّه السلطة الثالثة، لكنه أساس العدل بين الناس.

أدانت السلطات الأمريكية متمثلة بالقضاء الأمريكي ديريك شوفين، وهو العنصر في شرطة ولاية مينيابوليس الذي قتل جورج فلويد بعدما كان يصرح الأخير "لا أستطيع التنفّس"، وكانت هذه كلماته الأخيرة. أدّت وفاة فلويد في مايو/أيار 2020 إلى موجة غضب من قبل الشعب الأمريكي؛ لأنهم اعتبروا ما حصل فعلاً عنصرياً، كون فلويد من البشرة السوداء وعنصر الشرطة من البشرة البيضاء.

اتّخذ التحقيق مجراه الطبيعي، وبعد مرور أقلّ من عام على وقوع الحادثة في مينيابوليس، اتّهم القضاء الأميركي شوفين بثلاثة جرائم هي: القتل غير المتعمّد، والقتل المتعمّد من الدرجة الثانية، والقتل من الدرجة الثالثة، وتصل العقوبة إلى 75 عاماً من السجن أقلّه.

في مقارنة سريعة مع لبنان، وقع انفجار ضخم في بيروت بتاريخ 4 أغسطس/آب 2020 واعتبر رابع أكبر انفجار غير نووي في العالم. ذهب ضحيّة هذا الانفجار أكثر من 200 شخص وما يزيد عن ألف جريح، وحتى اليوم، ما زالت القوى السياسية تتدخل بأعمال القاضي الذي يتابع التحقيق في القضيّة.

ومن المتعارف عليه في لبنان أنّ القضاء مسيّس وتحكمه السلطة السياسية، لذا فإن هذه السلطة الذي رفضها الشعب اللبناني في ثورة 17 تشرين 2019 عندما نزل إلى الشوارع والميادين رفضاً للعصابة الحاكمة، هي نفسها التي تشرف على تعيين قاضي التحقيق فيما يخصّ انفجار مرفأ بيروت.

كان القاضي فادي صوّان أول من تسلم قضية انفجار مرفأ بيروت، وكان من أول القضاة اللبنانيين الذين يتجرّؤون لاستدعاء الوزراء إلى التحقيق ومنهم رئيس الحكومة المستقيلة حسّان دياب الذي رفض أن يمثل أمام القضاء.

وسعد الحريري الذي كان مستقيلاً من مهامه الحكومية، سارع بزيارة إلى السراي، حيث موقع رئاسة الحكومة ودعم دياب، مؤكّداً أن لا أحد يستطيع المساس بموقع رئاسة الحكومة. بعد عدّة أشهر وبعد استدعاء عدّة وزراء، استقال صوّان عن مهامه بعد ضغوطات عدّة، واجتمع السياسيون على الجملة ذاتها: "صوّان تأثّر منزله بانفجار المرفأ فستحكمه العاطفة". 

واليوم، مع قاضي التحقيق الجديد طارق البيطار، يحاول المسؤولون التدخّل أيضاً، حيث أرسل وزير الاقتصاد كتاباً إلى البيطار طالباً منه استبعاد فرضية قصف إسرائيل للمرفأ خلال التحقيق، ولكن اعتبر البيطار أنّ ما حدث غير مقبول.

من هنا، يمكن مقارنة قوّة القضاء بقوّة الدّولة. استقلالية القضاء عن التدخّلات السياسية يجعل المواطنين والسياسيين سواسية أمام العدل، فلا أحد فوق القانون. وهذه الاستنسابية في التعيينات والتدخلات أوصلت لبنان إلى الانهيار الكامل المتكامل، حيث إن المسؤولين من وزراء ونوّاب تعاقبوا على السلطة منذ 30 عاماً حتى اليوم، يسرحون ويمرحون لأنهم مطمئنّون أن القضاء لن يلاحقهم.

آخر مستجدّات القضاء هو الصراع القائم بين مدّعي عام التمييز في لبنان غسّان عويدات، وهو يمثّل الحق العام فيما يتعلق بالجرائم (المالية، القتل، وغيرهما) المرتكبة على الأراضي اللبنانية وهو ممثل الدولة، والمحسوب على تيار المستقبل الذي يترأسه سعد الحريري، وبين نائب عام جبل لبنان القاضية غادة عون المحسوبة على فريق رئيس الجمهورية ميشال عون.

السبب الذي دفع إلى هذه الفوضى في القضاء وانهياره بشكل كامل كان كفّ عويدات يدّ غادة عون عن الملفات المالية، ما أثار غضب الأخيرة وذهبت لاقتحام مكتب ميشال مكتّف وهو صاحب شركة مكتّف لشحن الأموال وأيضاً متّهم بتهريب أموال السياسيين والنافذين إلى الخارج.

هذه الاستعراضات القضائية ليست سوى قشور، إذّ إنّ عمق الأزمة يتمثّل بصراع عون والحريري في أمريْن أساسييْن: تشكيل الحكومة والتدقيق الجنائي، ولعلّ الأخيرة هي السبب الأساسي للمشكلة التي تتصاعد يوميّاً على صعيد القضاء.

أزمة تشكيل الحكومة يبدو أنّها طويلة الأمد؛ إذ لا أحد من الأطراف السياسية يزعجه حال حكومة تصريف الأعمال، والدّول الخارجية لا تضع لبنان على سلّم أولوياتها؛ لذا فإبعاد الملف الحكومي عن الخلافات الكبيرة يبدو جائزاً.

التدقيق الجنائي، وهو التحقيق من أجل معرفة أسباب الهدر والفساد المالي، ويبدأ من حاكم مصرف لبنان رياض سلامة الذي يحظى بدعم خارجي كبير، وهو القشّة التي قصمت ظهر البعير ومنبع الخلافات السياسية الحادّة بين التيار الوطني الحرّ متمثّلاً برئيس الجمهورية وصهره جبران باسيل وبين تيار المستقبل المتمثل برئيس الحكومة المكلّف سعد الحريري.

يرفض الحريري التدقيق الجنائي كونه مقرّباً من حاكم مصرف لبنان رياض سلامة وله مصالح مصرفية عدّة، أمّا عون فيشدّد في خطاباته في الآونة الأخيرة على ضرورة التدقيق الجنائي وأهميّته، ليكون هذا الملف ورقة ضغط بين الطرفيْن. أما وقد كفّ عويدات يدّ عون عن الملفّات المالية، فهذا يعني أن التدقيق الجنائي سيبقى معلقاً، ممّا يزيد حدّة الخلاف بين عون والحريري ويستمرّ بتعلّيق تشكيل الحكومة المنتظرة.

ومع الوضع "الهستيري" الذي يشهده القضاء اللبناني اليوم بين مؤيّد لكلّ من عون وعويدات وتحول قبلة الصراع السياسي إلى القضاء، يكون لبنان رسمياً لفظ أنفاسه الأخيرة. فبحسب مقولة تشرشل، لبنان الدولة الوطنية انتهى رسمياً.

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

جنى بركات
صحفية لبنانية
صحفية لبنانية
تحميل المزيد