"ليس لأصحاب القلوب الضعيفة" كم مرة سمعت تلك الجملة أو ما يؤدي معناها؟ كم مرة رأيتها في مقدمة فيلم حاز العديد من الجوائز؟ أظنك ستقول رأيتها وسمعتها كثيراً. إذاً كم مرة قرأتها على غلاف رواية ما!
من "القوطي" إلى القرن العشرين
بما أن الرواية هي "عمدة الأدب" كان لا بد أن تكون لها مدارس ونظريات وأقسام تتعدد أشكالها، ويختلف الناس حولها، وبما أن الرواية تعتمد على عنصر التشويق كان لا بد أن نذكر أدب الرعب في مجمله.
لم يظهر أدب الرعب في أول الأمر إلا في صورة حكايات على يد أبناء الحكايات القوطية، كحكاية "حوت القلاع" و"البرق" و"أضواء الشموع"، فكان أول الأدباء الذين تشربوا من تلك الحكايات هو الأديب "هورساي بول" في روايته "قلعة أوترانتو" عام 1764، ثم ظهرت الحركة النسوية في مجال الأدب، وخاصة الرعب، على يد الأديبة "آن رادكليف" في روايتها "أسرار أدولفو".
ولم يتطور أدب الرعب إلى شكله الحالي إلا على يد الكُتاب الأمريكيين وعلى رأسهم "ستيفن كينج"، الذي كتب عدة روايات تحولت مُعظمها إلى أفلام سينمائية، تحمل بين دفتيها رعباً خارقاً للطبيعة في شكل وحوش وشياطين، ورعباً نفسياً يأسر أنفاس القارئ أو المشاهد.
ولم يصل ذلك الأدب إلى عالمنا العربي إلا مُتأخراً على يد العراب "أحمد خالد توفيق"، الذي كتب ما كان يود أن يراه موجوداً على أرفف المكتبات -أي أدب الرعب- فأثرى العراب عالمنا الأدبي بروايات مرعبة، ولكن تدور أحداثها هنا، في عالمنا العربي، فلم نعد نحتاج إلى أن نقرأ عن مصاص دماء أو وحش أسطوري في إحدى ضواحي لندن أو نيويورك، بينما نستطيع أن نقرأ عن "الجاثوم" التي ظهرت في أحلام رفعت إسماعيل المصري في سلسلة روايات "ما وراء الطبيعة" للدكتور أحمد خالد توفيق.
وبروايات العراب اتسعت قماشة الأدب العربي لكل الأفكار والأدبيات الجديدة، والتي تسير ضمن منظور الرعب، ولكن في وطننا العربي؛ لتظهر رواية "فرانكشتاين في بغداد" للكاتب أحمد السعداوي، و"الفيل الأزرق" لأحمد مُراد. فأُغرقت مكتباتُنا إلى يوم الناس هذا بأدبيات الرعب المتنوعة، ولكن كل رواية من تلك الروايات -حسب رأيي- لا يوجد ما يُميزها عن الأُخرى لتشابهها الكبير، من حيث فكرة الجن والعفاريت والقالب الشيطاني المُعتاد، فكان لا بد من جديد!
أحمد خالد مُصطفى "جواد" الرعب التاريخي
ماذا لو أتيت لك بقصة من التراث العربي والإسلامي، وسردتها لك بغير شكلها الاعتيادي، بصورة تشويقية، أو أن أجعل من يرويها لك جنياً أو عفريتاً أو حتى ملاكاً.. ما رأيك في هذا؟
تُعد الفكرة غريبة وجديدة، ولكن نتائجها مُطمئنة، لأنها ستجعل القارئ يتعلق بتلك الأحداث التاريخية في تراثه العربي، وقد يبدأ في البحث عن المزيد حول ذلك الموضوع، فكان فضل تلك الفكرة يعود إلى كاتب الرعب "أحمد خالد مُصطفى" صاحب رواية "أنتيخريستوس" و"أرض السافلين" و"ملاك نصيبين"، فأحمد خالد مصطفى نظر إلى التاريخ -خاصة التاريخ العربي- نظرة اعتزاز وفخر، ونظر إلى الشباب واتساع الفجوة بينهم وبين تراثهم، ثم نظر نحو روايات الرعب، فراودته فكرة الدمج بين أسلوب أدبيات الرعب -الترهيب والرعب- وبين قصص التراث سيراً على خُطى "برام ستوكر" صاحب رواية "دراكولا" والذي حول من قصة الكونت "فلاد دراكولا" إلى قصة رعب أسطورية.
وما أقدم عليه "أحمد خالد مصطفى" يُعد بمثابة مُجازفة، لكنها تستحق، فقد فاز ذلك الرهان بصورة واضحة، فقد ازداد عدد قُراء رواياته إلى الآلاف من الشباب الذين بدأوا ينظرون نحو تاريخهم العربي بصورة فخر واعتزاز مجدداً، ولو اختلفنا مع الكاتب أحمد خالد مصطفى في الدقة المعلوماتية لرواياته، إلا أننا -وبلا شك- لا نختلف على أنه يُعد أنجب تلامذة العراب -أحمد خالد توفيق- من حيث توظيف أدوات رواية الرعب في السرد التاريخي.
ومن أهم أدوات أدبيات الرعب "الترهيب والرعب"، وعن الفرق بينهما تُعلق كاتبة الرعب القوطية "آن رادكليف" في مقال لها سنة 1826م: "الترهيب هو التشويق في اللحظات التي تسبق وقوع الحدث، أما الرعب فهو شعور الاشمئزاز والتقزز بعد وقوع الحدث بلحظات"، ولقد أبدع الكاتب أحمد خالد مُصطفى في كلا الأمرين، فمن حيث الترهيب نُلاحظ ذلك مثلاً في سرده لقصة "بوكهانتس"، في رواية "أنتيخريستوس"، حيث يشوق القارئ بتفاصيلها الغامضة، أما من حيث الرعب فيبدو واضحاً في تلك الصدمة التي يتركها تعصف بذهن القارئ بعد أن يعلم حقيقة القصة التي تم تحريفها على يد الأمريكان وبرامجهم المعروضة على "ديزني"، وكذلك عند سرده للحقيقة المُغيبة وراء أحداث 11 سبتمبر (أيلول) في روايته "أرض السافلين"، حيث يظهر التشويق والترهيب المُتصاعد رويداً رويداً، إلى أن ينتهي في النهاية بالصدمة الكُبرى، حين نكتشف تلك القصص التي حرفتها الحكومة الفيدرالية وخبأت حقيقتها عن الناس.
لمحة عن رواياته
روايات أحمد خالد مُصطفى جد ممتعة ومُشوقة، وزاخرة بكمّ لا مثيل له من المعلومات التاريخية والحقائق المُغيبة، تجعل القارئ يطرح العديد من الأسئلة بعد ذلك الزخم من الأحداث والقصص التي تناولتها دفتا الكتاب، فهو يمزج بين واقعية الأحداث وفانتازيا السرد، فكل الأحداث لا تخرج من إطار التاريخ والواقع، ولكن السرد يكون سرداً خيالياً، حيث يسرده مجموعة من العفاريت أو أبناء لوسيفر، بحيث يجعل القارئ في حالة ترقب وتركيز دائمين لكل ما يدور حوله.
ولنضرب أمثلة على ذلك؛ رواية "أرض السافلين" تتحدث عن أمر غامض، وهي الغرف المُظلمة في مواقع "الديب ويب"، والتي تشهد أشهر الأسواق السوداء، حيث يُباع ويُشترى الإنسان بأبخس الأثمان، فيضع الكاتب القارئ في تلك الغرف ليتجول فيها برفقة "جني" يقص عليه كل الأسرار والأحداث التاريخية الغامضة، كأحداث 11 سبتمبر وما حدث خلف الكواليس.
رواية "أنتيخريستوس"، وهي رواية تحكي عن المُنظمات الماسونية وتاريخ نشأتها البعيد إلى يومنا هذا، فيشعر القارئ حيالها بأنه في عدة رحلات تاريخية، ما إن يحط رحاله في إحداها حتى يشرع في السفر لرحلة أُخرى، من فرنسا إلى بريطانيا إلى بلاد العرب فمملكة داود انتهاءً بفلسطين، وكل تلك الجولات برفقة عدة قصاصين تنوعوا بين صحفي اكتشف حقائق مُريبة، وبين عفريت كان من خُدام الملك سُليمان، وجني يُساند لوسيفر.
الخُلاصة
المُثير للاهتمام هو الدور الجليّ والواضح للقضية الفلسطينية في كافة أدبيات "أحمد خالد مُصطفى"، كأنه لا يكتفي بإحياء حب التاريخ والبحث فيه عند الشباب، بل يحيي فيهم قضيتهم الأولى، وركيزتهم الأم "فلسطين"، فأحمد خالد مُصطفى لا يُعد مجرد كاتب يهوى قراءة التاريخ ونسج الكلمات من خلالها فحسب، بل هو مناضل في سبيل قضيته وتراثه.
في النهاية سيذهب كل هؤلاء الأدباء وستبقى أعمالهم شاهدة على حضورهم يوماً ما، فحين سنتحدث عن رائد أدب الرعب في وطننا العربي سنتذكر أحمد خالد توفيق مباشرة، أما حين نتحدث عن أدب الرعب والتاريخ فسنتذكر مُباشرة تلميذه النجيب أحمد خالد مُصطفى.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.