بين المحاضرات، قبل وباء كورونا، اعتدت أن أجتمع مع الأصدقاء لنشرب الشاي، ومنا من يدخن السجائر الأجنبية أو المحلية في كلية العلوم الإنسانية، قسم العلوم السياسية. وأتذكر سؤالاً أطلقه صديقي سيرجيو وهو يرتشف آخر نفس في سيجارته في إحدى زياراته للكلية: ماذا يدخنون عندكم في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية؟
أجبته بسذاجة، سجائر محلية رديئة للعامة وأخرى مستوردة للأغنياء. رد ساخراً: أقصد أي نوع من المخدرات؟ أي نوع من المخدرات يدخنونها ليتماهوا مع ويتغاضوا عن كل هذا العبث في مصر؟ لم أُجب فلا أعرف الإجابة.
دخلت إلى المحاضرة التالية متأخراً، وكان البروفيسور قد أنهى الجزء الأول من المحاضرة بجملة "أفكار الطبقة المهيمنة هي في جميع الأوقات الأفكار المهيمنة" (ماركس، الأيديولوجية الألمانية). بدون فواصل لتأخرنا في المنهج كالعادة، أخذ البروفيسور -كما نسميه- في مراجعة كتاب "السياسة بصفتها مهنة" لعالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر، الذي يعرف فيه الدولة على أنها الجهة المختصة باحتكار وسائل العنف والقوة المشروعة، لأجل الحفاظ على تماسك الدولة. ثم يضيف أن إفراط الدولة في احتكارها للعنف وممارستها للبطش يؤدي غالباً إلى حدوث زعزعة للاستقرار. فالعنف لا يولد إلا العنف، وليس الباذنجان كما صرح صديقي سيرجيو.
استخدام القوة والعنف له تاريخ طويل في النظريات السياسية. ولكن فيبر جعلها نقطة محورية في مفهوم الدولة الحديثة، حيث يؤكد أن علاقة الدولة والحكم من جهة والمحكومين من جهة أخرى هي علاقة الهيمنة والإخضاع، وهذا ما نراه بوضوح في الحالة المصرية. لكن المشكلة هنا أن الطبقة المهيمنة ليست نخباً مجتمعية أو حزباً سياسياً ما، بل المؤسسة العسكرية والتي هي جزء من الدولة بالمقام الأول.
هنا تكمن المشكلة حيث يصبح الجيش وقادته طبقة اجتماعية متمايزة عن غيرها، وفي نفس الوقت هي الكيان العسكري الأقوى في البلاد، والمحتكر رفقة أجهزة الأمن الأخرى للعنف، ولا وجود لنظام سياسي مدني في العملية السياسية.
بالرجوع إلى سطر ماركس المقتبس أعلاه، بإطلالة سريعة على مصر في عهد عبدالفتاح السيسي، سنجد أن كل منتجات الفكر وطرق الإدارة والفنون والآداب واللغة وغيرها هي من إنتاج الجيش سواء بإشرافه المباشر أو عبر كيانات اقتصادية تعمل تحت إشرافه وتوجيهه، حيث أصبحت كل الحقائق والسرديات والأخبار والقضايا المتداولة في بر مصر من إنتاج وإخراج المؤسسة العسكرية. ولعل هذا يظهر بوضوح في مسلسلات شهر رمضان الحالي، حيث يتم استغلال هذا الشهر بما يحمله من تأثير عاطفي ووجداني، لتبرير الأوضاع الراهنة وتمرير المجزرة الأكبر في تاريخ مصر الحديث بحجة الحفاظ على الدولة.
وللأمانة، يتخللني اليأس لما تصورته من سيطرة الدولة ليس على المؤسسات والكيانات فقط بل على المجتمع وأفكاره. لكن سرعان ما يتبدد هذا الشعور، فما زال في العمر محاضرة أخرى بعد كوب شاي آخر مع سيرجيو.
وفي مشهد سينمائي يشبه مشاهد المخرج أندريه تاركوفسكي، تبدأ البروفيسورة المحاضرة بمقولة تُذهب يأس المحاضرة السابقة، فتقول: "إن تشاؤم العقل لا يقاومه إلا تفاؤل الإرادة". للوهلة الأولى ظننتها اقتباساً من رواية لم أقرأها. لكن رحمة بكل من ثار وكل الحالمين بعالم أفضل، كانت هذه الكلمات للفيلسوف والمناضل الإيطالي أنطونيو غرامشي. ذلك الفيسلوف يضع بكل عقلانية ونظرة تحليلية ثاقبة لكل ثائر ومثقف دوراً واقعياً في عملية التحرر والنضال ضد الاستبداد. رغم أن لرؤية غرامشي خصوصية إيطالية، حيث تنبثق من الوضع الإيطالي وقت حكم الفاشية، إلا أنه يقدم تحليلاً ثاقباً للعلاقات بين الدولة والمجتمع، حيث يطرح منظوراً جديداً للثورة، تحتل فيه الثقافة مكانة مركزية، بعيداً عن الشعارات الصبيانية وتمجيد الأمن من رجال الدولة. يضع تصوراً استراتيجياً آخر يسمى "حرب المواقع"، إذ يعمل المثقفون وطلاب العلوم السياسية الذين لا يدخنون المخدرات، ويكتفون بالسجائر المحلية، على استمالة المجتمع المدني من خلال صراعات ونزاعات ثقافية. تجعل الأفكار التحررية أفكاراً بديهية في عقل المواطنين. بالإضافة إلى الضغط من أجل تغيير شكل الدولة، وللعلم هذا هو جوهر كل الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية التي غيّرت شكل أوروبا.
غرامشي في القاهرة
يرى غرامشي ضرورة بناء السلطة في المجتمع المدني، نظراً لما يحمله من تعقيدات الحياة وخصائص مؤثرة متعلقة بالأدوار المجتمعية، حيث يمكن هنا للمثقفين والثوريين إنتاج قيم وغرس قواعد جديدة قادرة على إنشاء نظام اجتماعي قائم على المساواة، ما قد يؤدي بدوره للقضاء على هيمنة الدولة المتمركزة حول الجيش والتأكيد على فكرة تداول وتوزيع السلطة.
ولعل الشاهد على ذلك عام 2012 أثناء حكم المجلس العسكري المصري بعد الثورة، حيث كان المجتمع المدني ما زال محملاً بأفكار الثورة من حرية ومساواة وعدالة. نتيجة لذلك استطاع الضغط على القوى المهيمنة آنذاك لإجراء الانتخابات البرلمانية والرئاسية.
إن الحياة تترابط بشكل رسمي وغير رسمي. فبينما تسعى طبقة الجيش إلى الهيمنة على المجال العام والخاص بالإضافة إلى إخضاع الاقتصاد لها. يجب أن يسعى المثقفون إلى انتزاع تربية الجماهير من أيدي هذه الطبقة. للمساعدة على خلق مجتمع ودولة قادرة على التفاعل والتضامن مع مواطنيها.
رغم ترسخ القمع وتجميد الصراع السياسي الذي تشهده مصر، تحاول الدولة أن تطور أدوات الهيمنة الثقافية عن طريق إنتاج مسلسلات وأفلام ومؤتمرات شبابية تتبنى روايتها ورؤيتها فقط. وتعتقل أي مساحة إبداعية وفنية تحاول الانتقاد أو تبني رؤية مخالفة. ولعل هذا يوضح علل غياب جماهير كرة القدم عن الملاعب، رغم القدرة الأمنية الجبارة للدولة على تأمين المباريات.
وهذا يؤكد ما قاله غرامشي من أن الهيمنة الثقافية هي الأصل في ممارسة السلطة. وهنا يطرح "فلسفة البراكسيس" وهي الأداة للمثقف العضوي أو المثقف المشتبك من أجل كسب حرب المواقع. ويجب التذكير بأن هذا ليس انتقاداً لفكرة الدولة، بقدر ما هو تحفيز للخروج من هيمنة طبقة ومؤسسة واحدة تدير الدولة منذ أكثر من نصف قرن بحجة أن المجتمع جاهل وليس جاهزاً للديمقراطية بعد.
إن أساليب السيطرة التي يستخدمها القائمون على السلطة ليست بجديدة، بل الجديد هو طبقة المثقفين المنحطين الذين يخدمون السيادة ويناصرون ثقافة الحكم البائد منتشين بأنفسهم معتقدين أنهم عقلانيون. تعمل الدولة على زرع هذه الطبقة السقيمة بقيم متناقضة وعدمية باسم الدين والوطنية.
في الخلفية ينادي أنطونيو غرامشي من محبسه على كل مبدع ومثقف وفنان، ويؤكد له أننا نحتاج إلى "حماس جدّي وإرادة قوة ترتفع إلى شكل راقٍ من الثقافة لتصوّر العالم".
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.