لعل أكبر مغالطة تم الترويج لها أن معركة الأساتذة الذين فُرض عليهم التعاقد هي معركة فئوية تهم شريحة محددة، وهو ما جعل التعاطي معها يقتصر في الغالب على سلوكين اثنين، إما التجاهل الذي قد يتطور إلى العداء، بزعم أن الأساتذة الجدد هم من وضعوا أنفسهم في هذا المأزق وقبلوا بوضعيتهم تلك، والاتجاه الثاني هو التضامن الجزئي الذي يكون عابراً، والذي يغيب في المحطات الحاسمة، حيث يترك الأساتذة الجدد يواجهون وحدَهم كل الصلف المخزني بحقهم.
الإيجابي هو أن الاتجاه المعادي بدأ ينكمش مؤخراً، مقارنةً بما كان عليه الحال سابقاً مقابل بروز حالة تعاطف واسعة النطاق تجد صعوبة في التبلور بفعل فرامل عدد من الفاعلين النقابيين والسياسيين، وتعاملهم الحذر مع الأوضاع المحتقنة، ومع ذلك فقد فرضت عليهم القيام ببعض الخطوات، وإن ظلت خجولة، إضافة إلى عدد من المبادرات المتفرقة الداعية لمقاطعة عدد من الكيانات، وما زالت الأيام القادمة حبلى بتطورات في هذا الملف.
الفاتورة الباهظة التي دفعها مناضلو تنسيقية الأساتذة الذين فرض عليهم التعاقد في نضالهم هي برهان على أننا لسنا أمام فئة مراوغة تُحسن اقتناص الفرص كما يصورها البعض، ولو لم تكن مطالبها مستحقة ما صمدت كل ذلك الصمود، ذلك أن المحرك الأول لحركتها هو الكرامة، فلو لمس الأساتذة الذين ينتسبون إليها معاملة لائقة تصون كرامتهم وحقوقهم وتُساويهم بأوضاع زملائهم في هذا الشكل التوظيفي الجديد لَما تحمّلوا جرعات القمع المكثفة التي أسفرت عن مئات المصابين، إصابات بعضهم حرجة، ناهيك عن الاقتطاعات والتوقيفات والاعتقالات. ذلك أن مطالبهم بالأساس لم تتجه إلى الزيادة في الأجور (على أهمية هذا المطلب)، هم فقط يطالبون بألا تكون أجرتهم المحصلة مغمسة بالذل.
لا شك أن الشريحة الأكثر تضرراً مرحلياً هي شريحة الأساتذة الجدد، الذين دخلوا مجال التعليم ليُصدموا بالتمييز والحيف والمعاملة الدونية، ما أجج أوضاعهم وعجّل انتفاضتهم، غير أن التبعات الأكبر ستطال العملية التعليمية، وعموم المجتمع من ورائها. لا نفصل فيما بات الجميع يعلمه، بخصوص المخططات الرامية إلى ضرب التعليم العام، عبر الامتثال لإملاءات المؤسسات الدولية على خطورتها، لكننا نُنبه أن التعاطي معها على أنها إكراه خارجي لا قِبل لنا برفضه هو أمر مبالغ فيه، يُحاكي الدعاية الرسمية بغير وعي، ذلك أن بلداناً عديدة بنفس أوضاع المغرب الاقتصادية والاجتماعية لم تفعل التوظيف بالعقد أو تراجعت عنه بعد إقراره دون أن تؤثر فيها ضغوطات المؤسسات الدولية.
الحقيقة أن الدولة المغربية إضافة إلى تبعيتها العمياء للدوائر الغربية فإن تشبثها بمخطط التعاقد قد راق لها، حيث عملت من خلاله على إعادة هيكلة قطاع التعليم بشكل يعمم الإذعان، ويقتل حس الكرامة عند كل العاملين فيه. نعم لم يكن حال نساء ورجال التعليم بخير قبل إقرار التعاقد، بعد أن تآكلت قدراتهم النضالية، وتلاشت روح السبعينات والثمانينات تدريجياً، إلا أن المخطط يشكل الضربة القاضية للجسد التعليمي برمته، ذلك أنه استهدف الشيء الإيجابي الوحيد الذي احتفظ به قطاع التعليم، وهو الاستقرار الوظيفي الذي يُراد ضربه اليوم بالنسبة لأفواج متلاحقة لن تمر بضع سنوات حتى تشكل الأغلبية من نسبة نساء ورجال التعليم، ولن يكون الأساتذة القدامى بمنأى عن أية ممارسات تعسفية تلحقهم بأوضاع زملائهم ممن فُرض عليهم التعاقد، ولن تعدم الدولة التبريرات والتخريجات القانونية لذلك، وما نشهده من نقاش حول صندوق التقاعد واحد من المؤشرات المقلقة في هذا الصدد.
فكرة الاستقلال المادي للعملية التعليمية كانت تغيظ السلطوية، التي كثيراً ما اشتكت من أن الاحتجاجات في هذا القطاع تمثل النسبة الأكبر من مجموع الاحتجاجات في البلاد، أضف إلى ذلك أن من ينتمون إليه يتفاعلون مع الشأن العام بشكل أكثر تحرراً من غيرهم، دون خوف على "أرزاقهم"، عكس من يسهل تجويعهم، مثل الصحفيين والفنانين وموظفي الأوقاف وموظفي القطاع الخاص وغيرهم. لذلك أُريدَ لرجل التعليم الجديد أن يعيش اللا استقرار الوظيفي، وأن ينشغل بالسعي لإرضاء المدير والمفتش، وأعوان السلطة، عن الهموم الكبرى، تماماً مثلما يحدث لأئمة المساجد، فهم رهائن رضا أعوان السلطة، ونظارة الأوقاف، و"جماعة" القرية عليهم.
التسليم بهذا الواقع يمثل نكبة حقيقية على قطاع التعليم، ولولا المعركة التي يخوضها الأساتذة الذين فُرض عليهم التعاقد، التي شكّلت حائط صدّ في وجه المخططات التصفوية، والتي أثارت حنق السلطة وأصابتها بالهستيريا لَكانت الأوضاع أشدَّ قتامة، لاسيما أنها أنعشت الجسد الهامد، وحرّكت المياه الراكدة داخله، وأعطت دفعة قوية لتنسيقيات فئوية أخرى لاستئناف نشاطها، الشيء الذي زاد من مخاوف المخزن من أن تُنْقَلَ عدوى الاحتجاج إلى دوائر مجتمعية أوسع.
وكعادته في مثل هذه الحالات فإنه يقوم باستهداف "التلميذ المشاغب"، وبتأديبه حتى يخاف زملاؤه وينصاع الجميع، هكذا صنع مع حراكي الحسيمة وجرادة، للقطع مع الاحتجاجات المناطقية، وهكذا يصنع مع كل قلم مشاكس حتى ترتدع باقي الأقلام، وهكذا صنع مع احتجاجات الأساتذة المجازين حين قام باستثمار قمعها في الإجهاز على حق الإضراب، وفي تخويف عموم العاملين من عاقبة الإضراب، بعد أن رأوا العشرات من الأساتذة يُساقون إلى المجالس التأديبية، وتُوقف رواتبهم التي تعرّضت قبل توقيفها وبعد استردادها إلى مجزرة كبرى من الاقتطاعات.
في حالة الأساتذة الذين فرض عليهم التعاقد فإن حجم العنف بلغ مستويات غير مسبوقة، وبخلاف ما مضى حين تُرِكَ هامش محدود للفئات المحتجة لتجسيد بعض فعالياتها النضالية، فإن المزاج العصبي السلطوي الحالي جعل الأصل في معالجة أي شكل نضالي هو القمع ولا شيء غير القمع، وحول احتجاجاً مطلبياً عادياً إلى معركة من جانب واحد، عدتها السلطة بمثابة أُم المعارك، التي لا يجوز التساهل فيها، كأن التجاوب مع مطالب فئة هو هزيمة أمام عدو خارجي.
لكنها الذهنية المخزنية التي ترهن هيبتها بسحق أبناء المغاربة والتنكيل بهم، تعويضاً لها عن الانكسارات التي تمنى بها خارجياً، بدا هذا واضحاً في عسكرة العاصمة في الأسبوع الأسود، حيث تأكد الجميع من أن السلطة تقامر بملف الأساتذة الذين فُرض عليهم التعاقد، وتضع كل أوراقها وكل أدواتها وترسانتها الدعائية فيها، غير مبالية بالصورة السوداوية التي لطّخت بها وجه البلد، فالمهم بالنسبة لها هو التخلص من كابوس الاحتجاجات بأي ثمن، فهي تعتقد أن تركيع تنسيقية الأساتذة الذين فرض عليهم التعاقد سيقود لا محالة إلى إخلاء الشارع التعليمي من أي سلوك احتجاجي، منتهجة أسلوب كيّ الوعي .
ندق ناقوس الخطر من هذا التوجه الذي لا يجب الاستهانة به إطلاقاً، إذ إن إفشال وسائل الاحتجاج المشتركة بين التنسيقيات والنقابات في معركة أساتذة "التعاقد" سيقود إلى عدم نجاعتها وإلى إفلاسها، فإذا أخفقت الحشود الكثيفة بإضراباتها ومسيراتها واعتصاماتها في الدفاع عن حقوقها كيف سيكون الحال مع الآخرين، وهذا ما يستدعي التعامل الجدي مع هذا المستجد من موقع المسؤولية، والهم الواحد الذي يتجاوز التضامن إلى الانخراط الفعلي لجل الشرائح التعليمية، في المعركة ضد تدجين العملية التعليمية، لأن في الاستفراد بهذه الفئة المناضلة خسارة للجميع.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.