تغيّر العالم كثيرا، خلال المئة عام الماضية، بفضل الثورات العلمية والتكنولوجية، وضمن ذلك الثورة في مجالات الإعلام والمعلوماتية والاجتماع، وضمنها التواصل الاجتماعي ومسارات العولمة (في مختلف المجالات)، ويبدو أن ذلك أثر كثيرا، أيضا، على أشكال العمل السياسي.
مثلا، منذ حوالي مئة عام كان فلاديمير ايليتش لينين يعتبر جريدته "الايسكرا" (الشرارة)، بمثابة منظّم ومثقّف للطبقة العاملة، في حين رأى في الحزب المتراص بمثابة طليعة، أو جيش، لتلك الطبقة. وطوال عقود، منذ تلك الفترة، ظلت الأحزاب، وأخواتها من المنظمات النقابية والشعبية، بمثابة جهاز للتعبئة والهيمنة، في الدولة والمجتمع، وفي المجالات السياسية والأيديولوجية.
لكن سطوة الصحف بدأت بالتراجع مع ظهور "الراديو" و"التلفزيون"، اللذان لعبا دوراً رئيساً في التعبئة الجماهيرية، وكأداتي سيطرة في يد السلطات، بحيث بات التحكم بهما علامة على السيادة؛ ما جعل الاستيلاء عليهما على رأس جدول السلطات والحركات السياسية في بلدان آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية. وبالنسبة الى الأحزاب، وغيرها من منظمات نقابية وشعبية، فقد بدأت بفقدان بريقها، بعد أن استهلكت وظيفتها، بتحولها إلى جهاز من أجهزة الدولة أو السلطة، ما تم التعبير عنه بتراجع الانتساب إليها، وتدني نسب المشاركة في الانتخابات في البلدان الغربية، وانهيار الأحزاب الشيوعية في بلدان "المنظومة الاشتراكية".
أما في بلدان ما يسمى "العالم الثالث" (وضمنها البلدان العربية) فلم تتعرف الى الحياة الحزبية (ولا النقابية)، بالمعنى الحقيقي للكلمة، بسبب غياب دولة المواطنين والقانون والمؤسسات، وتعثر قيام المجتمع المدني، وغياب علاقات الاندماج الوطني، واحتكار السياسة من جانب القوى المسيطرة، وتحول الأحزاب إلى "ديكور"، أو إلى رديف، لجهاز السلطة. فمنذ مطلع التسعينات من القرن الماضي، لم يعد ثمة معنى للأحزاب ولا للمنظمات النقابية والشعبية في هذه البلدان، بعد أن تآكلت مكانتها، وأفل دورها، مع بروز العصبيات المذهبية والطائفية، والإثنية، والعشائرية والمناطقية.
مع ظهور شبكة "الأنترنيت"، مع انفتاح مجالات العولمة في تسعينيات القرن الماضي، ولا سيما مع تطورها منذ الألفية الجديدة، وما تفرّع عنها من "فيس بوك" و"تويتر" و"يوتيوب"، ومؤخرا واتساب وإنستغرام وزووم، يمكن القول إن ثمة شيئاً جديداً يجري، يرتبط مباشرة بالثورة العلمية التكنولوجية (في وسائل الاتصالات والمعلومات والإعلام)، وبتطور المجتمع المدني في العالم، بما في ذلك تزايد الهموم المشتركة، والاعتمادية المتبادلة، في مجالات البيئة والغذاء والصحة، كما في قضايا الاستقرار السياسي والاجتماعي والاقتصادي، وقيم الحرية والعدالة والسلام والديموقراطية.
فهذه المرة، وعلى ضوء تلك التطورات والتحولات التكنولوجية والمجتمعية والقيمية، لم تعد الحكومات المتسلطة تتحكم تماماً بوسائل الإعلام والاتصال، إذ بات هذا المجال، يخرج من نطاق هيمنتها، بل إن المبادرة في هذه المجالات باتت بأيدي أفراد أو شبكات يصعب تعيينها، أو تهديدها، أو استهدافها. وهذه المرة، فإن حيازة وسائل الاتصال والمعلومات باتت ممكنة للجميع، لقلة كلفتها، وصغر تجهيزاتها، بالقياس الى وسائل الاتصال والإعلام السابقة (الراديو والتلفزيون والهاتف والبرق)، والتي كانت تحتاج الى أكلاف مالية كبيرة، وتجهيزات هائلة، وإلى مجال سيادي، أو تغطية من دولة ذات سيادة؛ وهذه بالضبط أحد التجليات الإيجابية للعولمة.
على الصعيد القيمي، أيضاً، لم تعد الحكومات هي التي ترسم جدول الأعمال، أو تحدد جدول الأولويات، بحسب مصالحها ورؤاها، وإنما أفراد وجماعات، على امتداد العالم. وفي المجال الاجتماعي، فإن ظهور شبكات كهذه يعبر عن تزايد دور المجتمع المدني، الذي لم يعد معنياً بإقليمه فحسب؛ وهذا من أبرز نتائج "العولمة"، أي عولمة القيم وتبادل المصالح.
ولعل الأثر الذي لا يمكن إغفاله لشبكات الأنترنيت العنكبوتية، أيضاً، إنما يتجلى بتحولها إلى نوع من شبكات منظمة، لكأنها حلّت محل التنظيمات الحزبية، وإلا فما معنى وجود مجموعات البريد الإلكتروني وشبكات الفيسبوك ومواقع تويتر ومجموعات واتس أب والندوات أو المؤتمرات في شبكة زووم، مثلا، وغيرها؟
وعلى الأرجح، فإن شبكة الأنترنيت، بتفريعاتها وتنويعاتها، والتي تتيح المجال لخلق أشكال من التجمعات والشبكات، متباينة الاهتمامات والأهداف، باتت بمثابة الشكل الجنيني للأحزاب المعاصرة.
وتتميز تلك التجمعات ("الحزبية") بأن عضويتها مفتوحة، وغير مشروطة، وأنها تضمن أعلى قدر من الديموقراطية لمنتسبيها، وأنه لا توجد هرمية أو تراتبية قيادية فيها، فهنا العضوية أفقية، متساوية ومتكافئة. ومعلوم أن الأحزاب الشمولية بنيت بطريقة هرمية، لترسيخ الروح الفوقية والوصائية والبطركية، بحيث حل الحزب محل الشعب، والمكتب السياسي محل الحزب، والزعيم محل المكتب السياسي؛ والذي لا يتغير فيه الزعيم إلا بقضاء الله وقدره (وهذا ما حصل في تجربة الاتحاد السوفياتي والصين وكوبا واليمن الديموقراطي لمن يريد أن يتذكره!). ويتميز الانتماء الى هذه الجماعات والشبكات، في الفضاء الافتراضي الانترنيتي، بأنه لا ينطوي على امتيازات معينة، وأنه ينبني على الانضواء للدفاع عن مصالح عامة، وقيم إنسانية، وأنه يقلص الزمان والمكان، ويتجاوز الحدود الدولتية والهوياتية، ولا يفترض الكثرة العددية. أيضاً، فإن ميزة هذه الشبكات والجماعات أنها تعطي حرية المبادرة لكل الأعضاء والمنتسبين، وتتيح لأصحاب المبادرة البروز والتميز (لا القيادة)، بغض النظر عن السن والجنس والقوة والهوية والدين والمستوى الاجتماعي والدرجة العلمية. وأهمية هذه التجمعات والشبكات أن معركتها غير مكلفة، أو غير عنيفة، وإنما هي معركة سلمية وديموقراطية، وعلى الرأي العام.
على أية حال، فإن ما تقدم ليس حديثاً عن "نهاية الأحزاب"، على غرار "نهاية الأيديولوجيا" و "نهاية التاريخ"، وإنما هو محاولة لاستنباط العبر، ولفت الانتباه إلى بديهية أن الطبيعة لا تقبل الفراغ، وأن التكنولوجيا تؤثر في شكل التواصل الاجتماعي، وأن قطاعات الشباب باتت لا تجد نفسها في الأحزاب القائمة، التي تنتمي الى العالم القديم، وإن وسائط التواصل الاجتماعي، رغم ما يكتنفها من مشكلات أو ثغرات، فإنها تفتح مجالا أكثر للحرية ولأشكال التنظيم، للتعبير عن الرأي، والتفاعل، والتأثير.