عندما يسيطر العقل على القلب، ويموت الإيمان.. قصتي مع البروفيسور السويسري

عربي بوست
تم النشر: 2021/04/16 الساعة 12:14 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2021/04/16 الساعة 12:40 بتوقيت غرينتش
iStock

ما زلت أتذكر صدمتي الكبيرة وذهولي حينما قال  لنا البروفيسور الكبير في جامعة من أعرق الجامعات الأوروبية، الذي طالما اعتبرناه مصدر الحكمة وأحد منابعها، في أثناء محاضرة، إن أكثر المشاهد التي تبعث على الملل بالنسبة له هو مشهد شروق الشمس وغروبها كل يوم.

لقد قال إنه يظن أن هذا المشهد هو الشيء الأكثر مللاً في الحياة؛ لأنه يأتي يومياً بنفس المقدمات والعلامات وبنفس التسلسل. 

بالنسبة له، فإن ذلك المنظر الطبيعي المتكرر والحركة الكونية المنظمة التي تتعاقب باستمرار وبدون توقف منذ مئات، وربما آلاف السنين، قد أصبحت مثل مشهد سخيف في فيلم قديم أو مثل إعلان متكرر لا يأبه له الجمهور ولا يجدون في تكراره أي تجديد ولا ابتكار على مر السنين. ومن وجهة نظره العلمية، يرى أن الثبات والاستقرار الكوني ليس من الإبداع، وأن التغيير والتحول والفوضى هي السبيل الوحيد لجعل هذا المشهد بالنسبة له مليئاً بالإثارة وخالياً من الملل.

ناقشته من وجهة نظر مغايرة موضحة اعتقادي بأن التغيير هو سنة الحياة، فكل ما حولنا يتغير ويبلى ويفنى في وقت ما، وبناء على ذلك، فإن ذلك الذي تعتقده أنت (ثباتاً) واستمراريةً لو نظرنا إلى دقته وتفاصيل جمالياته التي سمحت له بالتكرار بهذه الدقة الفريدة لآلاف السنين، فإن ذلك قد يكون هو المعجزة والإثارة الحقيقية التي تبحث أنت عنها ولا تجدها في هذا المشهد المهيب، وقد يكون لك أدعى وأجدر بالتفكر والتدبر.

‎حقاً، أذهلني تعليقه المغرور بأنه لا يرى في تعاقب الليل والنهار إلا مادة متكررة مملة دونما أي تجديد أو ابتكار. 

وسر دهشتي من نظرته تلك هي أنها تأتي ليس فقط من مفكر وعالم في مجاله، وإنما هو في الأساس فنان أيضاً، فنان "فوتوغرافي" (كما يحب أن يسميه الناس) يجول بعدسة الكاميرا الخاصة به ليلتقط كوامن وخفايا الجمال في الإنسان والحيوان والنبات أيضاً، فيصور لقطات عبقرية يعبر بها عن التجانس والتناغم بين البشر من مختلف الأصول والديانات والألوان والملامح.

‎هزَّني أنه وبرغم أنه يحس بذلك الجمال ويقدره في إبداعه الشخصي، فإنه لا يحس بذلك الإبداع من الخالق العظيم. وذلك على الرغم من أن إبداعه ليس سوى انتقاء لتفاصيل إبداعية هي من صنع الخالق وهو الله. ولا يعتبر تكرار ذلك المشهد الأبدي والأزلي إلى ما شاء الله شيئاً مثيراً للاهتمام ولا داعياً للتفكر والتأمل في القدرة اللانهائية للخالق، بينما يعتقد أن ما يقدمه هو من فن يستحق كل الاهتمام والاحتفاء والتصفيق الهادر.

‎لقد عمي قلبه وعقله عن إدراك الإبداع الإلهي الدائم، ذلك الإبداع الذي صُنع بيد الخالق ابتداءً. ويا للمفارقة المضحكة الباكية، نجده على الرغم من إدراكه المبالغ فيه لإبداعه الشخصي الذي لايعدو هو كونه مجرد ناقل له وليس خالقه ولا مبتدأه ولا مبدعه، بل إنه فيما يبدعه فإنه فقط  جزء من ذلك الإبداع الإلهي.

إن هذا البروفيسير والعالِم هو وما بداخل عقله من علم وما يصنعه من إبداع ما هو إلا مجرد دليل وشاهد على وجود الله الخالق الذي منحه تلك القدرات العقلية كما منحه العين القادرة على رؤية وتصوير هذا الجمال الرباني ونشره.

‎تذكرت ذلك كله اليوم وأنا في الفجر أدعو وأنظر إلى السماء المظلمة يلمع فيها بريق نجم واحد وهلاله الساطع، رأيت أن الفرق بيني وبينه هو أنني أنظر لذلك النجم يومياً ولا أعتبره حدثاً مملاً، ولكنه شاهد على دعائي ودموعي ليشهد بها أمام الله يوم الحق، ‎ليشهد على صلاة المصلين والداعين والتائبين والنادمين. 

‎هو مثلي -ذلك النجم- مخلوق مثلي، وليس أعلى مني شأناً إلا إذا نظرنا لعلوه المكاني، هذا النجم مثلي، مخلوق مثلي. 

‎إن متابعتي لهذا النجم الساطع يومياً في صلاتي شاهد يشهد على ركوعي وسجودي يوم القيامة، كونه كان دائماً رفيقي وصديقي في كل تلك اللحظات الداعية المتبتلة.

إن إدراكنا لوجود الأشياء ومعانيها هو الفيصل في علاقتنا بربنا، ‎فنحن نأكل ونحن ندرك أننا نأكل ليس فقط لإشباع الجوع بل بنية التقوى للعبادة والعمل والاستمرار في الحياة، كما أمرنا الله تعالى.

ذلك الوعي الذي لا يرتبط بمستوى تعليمي ولا فلسفي ولا مادي للإنسان، ‎ولذلك فقط، فقد خلا عقل وقلب ذلك المفكر العظيم المشهود له بالحكمة في كل الأرجاء، خلا من الوعي بمعنى ومغزى تكرار هذا المشهد اليومي الأزلي.

‎وخلا من الفطرة الإنسانية التي من شأنها أن تربط   تلك  المشاهد الكونية المتكررة بعظمة لا بشرية تعمل كمنبه متكرر يوقظ من لا يحس جمال المشهد بأن يحس بجمال وعظمة خالق المشهد.

‎ حتى من تلك الناحية المادية المجردة، فإن تكرار واستمرارية هذا المشهد عبر الزمن بتلك الدرجة من الإتقان وبلا خطأ على المستوى التنظيمي والمستوى المرئي والمحسوس لجدير بأن يتفكر فيه، وبأن يحمل ذلك البروفيسور وغيره من المؤمنين -بالعلم إلهاً- بعضاً من التقدير له والفضول حتى لمعرفة من يُجري ذلك الكون ويدبر أمره بانتظام "وثبات" ودقة  لا يمكن محاكاتها في دنيا البشر.

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

ريهام محفوظ
كاتبة ومدوّنة
أخصائية علم النفس السريري وكاتبة مقيمة بسويسرا
تحميل المزيد