رسالة هيرميز الأولى عن سيدة النهايات ومدمن المجاز

عربي بوست
تم النشر: 2021/04/16 الساعة 09:31 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2021/04/16 الساعة 09:33 بتوقيت غرينتش
istock

رفعت عيني الغائرتين إلى السماء متأملاً زرقتها الصافية. كانت زرقاء، زرقاء كقلبي، ووحيدة كمسرح مهجور غادره الجمهور بعد المشهد الأخير. حزن الجميع على نهاية "روميو وجولييت"، صفقوا لمأساة "هاملت" وانتظروا عودة "غودو" لكنهم لم ينتظروا رؤية المسرح الفارغ. لم يحب أحد صدق المسرح الخالي من زيف الممثلين.

إن السماء هي ملجئي الوحيد في هذا العالم الموحش الذي لا يبالي بالحب والشعر والغروب.

"سنصير النسيان الذي سنكون تحت سماء لا تبالي"، هذا ما كتبه بورخيس في قصيدة نقوش على شاهد القبر. ربما غدا بورخيس اليوم نجمة في السماء تنشد سنصير النسيان الذي سنكون فوق هذا العالم الذي لا يبالي بدلالة الصورة ورمزية المعنى.

تشكل ألوان السماء بوصلة مزاجي ومهماز قلبي. أمضي اليوم بطوله أراقب تغيراتها وأفك رموز ألوانها. الأزرق لون العدم، الليلك لون القبل، أول الحب، الأمان. النجوم أحباء حاضرون غائبون. الشهب أمانيّ مضيئة هاربة من قسوة القدر. المطر دموع الآلهة واستنجادها من عروشها ومن وحشة الأولمب من قسوة أبنائها على الأرض ومن قسوة الصحائف على أبنائها، فكلنا ضحايا العدم. السحب خيالات وجوه غريبة لا أعرفها ولا تعرفني، كلما بدأت وصفها غيرت شكلها فشطبت العبارة وبدأت من جديد حتى فقدت الأمل في فك رمزيتها.

أنا مدمن المجاز، أحب خلق رمزية كل شيء إلا أن الغيوم تمردت على مشيئتي فسميتها غيمة، غيمة فقط وفي ذلك يكمن مجازها.

أتفقد قلبي الرابض بين جناحي، أفتش فيه عن ذكريات نسيتها عمداً. أقلبه، أعد خدوشه واحداً واحداً. كل خدش وراءه قصة بدأت برعشة الحب الأولى ودفء البدايات. كم أشعر بحمقي كلما تلفتت الذاكرة إلى خيباتها المتكررة في الوطن والأحباء. أنفض جناحي الغريبين في ريشهما وأتراجع عن الخوض في تلفت الذاكرة، حفاظاً على ما تبقى القلب. 

اقتربت ساعة الغروب وازدحمت القبة الزرقاء بمواطنيها الهاربين من لحظة الوداع الأخيرة. أما أنا فلا أهرب من لحظات الوداع بل أترقبها وأشاهدها قادمة على مهل أرتب سيناريوهات حدوثها أو أصنعها. لا عرش لي إلا على قمة الجبل العالية، حيث تنحني السماء من علوها وتشرئب الجبال بقممها، حيث يقبل الوجود العدم. هناك أقف وحيداً في حضرة العاطفة فيزدحم المكان بخيالك، بصوتك، بضحكتك. أعد قصص حب الطبيعة لأنساك أو أخلقها لأملأ فراغ وحدتي، ففي الوحدة يتجلى الحب في كل شيء: في همس الريح، في إباحية المد والجزر وفي موعد الشمس والقمر.

تحل لحظة الغروب، سيدة النهايات. تمشي الشمس على مهل، تتأخر قليلاً عن موعدها ويأتي القمر مسرعاً، يأتي قليلاً قبل موعده يقف الحبيبين على مرأى الوجود صامتين. لا حاجة لهما إلى الكلام، فالحب لا يتحقق إلا في مجاز الصمت. يقف القمر بعيداً يشاهد حبيبته بكامل جمالها تبتعد رويداً رويداً حتى تختفي وراء ليلك السماء ويبقى القمر وحيداً. أحيانا تنتظره ولا يأتي وأحياناً ينتظرها ولا تأتي. لا يلتقيان ولا يفترقان بين لهفة اللقاء وقسوة الفراق يكتبان قصة حبهما. 

ويشاهدهما قمراً وشمساً بشريين يعيشان قصة حبهما المستحيلة. يقول لها كوني شمسي وأكون قمرك أحرس نومك من حنين ماكر يستفرد بليلك ومن كابوس غيابي. أزين سماء عينيك نجمة نجمة وأنتظرك. وتقول له سأضيء ظلمة روحك. سأحبك قيثارة تعزف مأساة الوجود أو بدراً يبشر بالعيد. سأحبك دائماً وأنتظرك. ويفترقان ولا يلتقيان أبداً ففي الانتظار تنهار مبالغة العبارة ويخف نبض القلب. ويبقى الوعد الصادق الوحيد وعد الحبيبين السماويين. تنتظره حتى يمل الوقت من الانتظار. محظوظان هما، يملكان العمر كله ليترددا ويخجلا حتى يستجمعا شجاعتهما فيجريان لبعضهما ويخسفان في دفء القبلة الأولى.

أما أنا فلا أملك من ينتظرني أو أنتظره. لا إلياذة لي إلا بين ركام أوراقي. لا ألوهية لي إلا على قصصي أخلق أبطالها في أحسن صورة، وأجعلهم أبطالاً وضحايا. أتسلى بكتابة قصص حبهم، أصنع مأساتهم في أوقات فراغي وأفكر في حكمتها فيما بعد. أحبهم، فيتعبني القلب، وأتركهم على قارعة الورق، ناقصين، دون نهاية، وأقول لهم: سأعود مرة أخرى عندما يشفى القلب وتلتئم القريحة لكنني لا أعود وهم لا يأتون أبداً. لا رسائل أوصلها إلا رسائلي، اكتبها بحذر خوفاً من أن يخترق صدق البوح تكلف التعبير وعندما أنتهي أغلفها برفق، وأنحني على الظرف لأكتب اسم المرسل إليه لكن لا اسم أجرؤ على كتابته، فالمراسلة متاهة أبدية لا يدخلها سوى العشاق الهائمين أو الفلاسفة الحائرين ونحن بين بين، نحن الشريدين بين حكم الهوى وجنون الفكر. اسم من أكتب إذاً؟ سأكتب إليك "أنت" حيثما كنت وستكون. لكنني يوماً ما سأتركك معلقاً بين رسالتين، دون وداع، وأقول لك سأعود مرة أخرى عندما يشفى القلب وتلتئم القريحة لكنني لن أعود، فهل ستأتي؟ 

شحرور يغني في سكون الليل، يأخذ تلك الأجنحة المكسورة ويتعلم التحليق، يأخذ تلك العيون الغائرة، ويتعلم أن يرى، طوال حياتك، كنت تنتظر فقط تلك اللحظة لتتحرر. شحرور يحلق، شحرور يحلق نحو النور في ظلام ليلة سوداء.

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
بسمة العاطي
طالبة تواصل مغربية
عمري 19 سنة أدرس في السنة الثانية من الإجازة المهنية في علوم التواصل وتقنياته بجامعة محمد الخامس بالمغرب، وقد اخترت مجال دراستي بناءً على شغفي بالصحافة بجميع مكوناتها وأنواعها. أكتب في مدونات عديدة من بينها مدونة زوايا ومدونة ساسة بوست، بالإضافة إلى صحيفة هسبريس المغربية، وقد اجتزت تدريباً مكثفاً لمدة شهر في التلفزيون الوطني المغربي.
تحميل المزيد