تعيش المنطقة العربية منذ تولي جو بايدن سدة الحكم في الولايات المتحدة الأمريكية لعملية خلط أوراق يُعاد من خلالها ترتيب أوراق الدول فيما بينها في ظل بدأ الحوار الغربي مع إيران حول ملفها النووي وحضور التوسعي في المنطقة، فيما تتعدد المؤشرات حول حصول تقدم جدّي بين الولايات المتحدة الأمريكية وإيران. الاجتماع في فيينا هو المؤشر الأوضح والأبرز، ولو أن الوفدين الأمريكي والإيراني كانا في المبنى نفسه من دون أن يلتقيا في الغرفة نفسها.
طهران وواشنطن وتل أبيب بينهما
وبحسب المحلل السياسي جوني منير فإن ثمة مساراً تتوقعه الأوساط الغربية بألا يطول أكثر من شهرين، أي قبل موعد الانتخابات الرئاسية الإيرانية. وخلال هذه الأسابيع سيظهر حتماً كثير من المشكلات، وسيرتفع منسوب التشنج إعلامياً، لكن لعبة التفاوض تفرض هذا السلوك قبل بلوغ الميل الأخير، الذي على الأرجح سيكون الأكثر تعقيداً وصعوبة وتشنجاً. هي لعبة المفاوضات التي تستنزف في العادة كل أنواع البراعة في المناورة وحتى في فنون المراوغة.
لكن النتيجة معروفة وهي إعادة وضع قطار الاتفاق على سكة التطبيق. لكن الصورة الحقيقية موجودة في مكان آخر، وعلى الأرجح في سلطنة عُمان التي نجحت في كسب دور الوسيط المضمون والموثوق بين الأمريكيين والإيرانيين خلال مرحلة الإعداد للاتفاق الأول، ومن المنطقي أن تكون راعية التواصل الصعب والحذر في المرحلة الحالية.
لكن التعقيدات الخطرة التي ترميها إسرائيل في الوسط. ذلك أنّ ثمة حرباً سرية عنيفة تدور رحاها بين إسرائيل وإيران على وقع المفاوضات الدائرة. الحرب البحرية بدأت في عام 2018، وقد غَضّت إيران النظر مرات عدة عن العمليات الإسرائيلية.
لكن إسرائيل التي تريد رفع مستوى الحرب السرية مع إيران، عمدت أخيراً إلى تبنّي عملياتها إعلامياً كانت تريد بذلك إحراج السلطة الإيرانية لدفعها إلى الانخراط في سياق الفعل ورد الفعل، وطبعاً الهدف الفعلي هو مَنح الإيرانيين، المتشددين والرافضين أي قيود أو اتفاقات خارجية على البرنامج النووي، دفعاً قوياً لموقفهم ما سيجعل السلطة الإيرانية أكثر تردداً وحذراً في تقديم أي تنازلات تفاوضية. والواضح أن هجوم "نطنز" والإعلان عنه بهذه الطريقة إنما يهدف إلى ذلك.
وفي الوقت نفسه ستعمل إيران على تحسين موقعها التفاوضي في وجه الأمريكيين. الهجوم على نطنز، الذي تزامَن مع وصول وزير الدفاع الأمريكي لويد أوستن إلى إسرائيل، فرض نفسه على جدول المحادثات. فيما تنقل أوساط دبلوماسية أن المسؤولين الإسرائيليين أكدوا أنهم لا يعتزمون استهداف جهود الرئيس الأمريكي لاستئناف المسار الدبلوماسي في فيينا، لا بل على العكس أنّ إسرائيل تدافع عن أمنها، وفي الوقت نفسه ستمنح هذه العملية واشنطن مزيداً من الوقت للتفاوض قبل وصول طهران إلى نقطة اللاعودة.
تحولات في المنطقة.. السعودية وتركيا
منطقياً فالسعودية ترزح تحت مشكلة اليمن وتوسُّع نفوذ الحوثيين الذي وصل إلى مأرب. فالحوثيون باتوا يسيطرون على معظم البلاد. والواضح أن إيران نجحت في تشكيل تهديد عسكري عند الحدود مع السعودية والذهاب في تهديد العمق السعودي من خلال الصواريخ والطائرات المسيرة. وفي الوقت نفسه ترزح السعودية تحت تكاليف الحرب الدائرة في اليمن وسط تراجع أسعار النفط بسبب الركود الاقتصادي العالمي نتيجة جائحة كورونا. وبالتالي، فإن تخلي الحوثيين عن سلاحهم والذهاب الآن إلى حكومة وحدة وطنية يبقى حلاً غير واقعي في هذه المرحلة. فالمشهد في حاجة إلى تسوية أكبر مفتاحها في يد واشنطن وطهران.
لافتةً للانتباه اللغة التي اعتمدتها وزارة الخارجية التركية في 7 آذار/مارس الماضي بتعبيرها عن "بالغ قلقها" إزاء الهجمات التي استهدفت الأراضي السعودية، ومصدرها ترسانة الصواريخ الإيرانية بحوزة جماعة أنصار الله في شمال اليمن. جاءت الإدانة التركية الدافئة، مباشرة بعيد إعلان العميد يحيى سريع، الناطق باسم الحوثيين، عن إسقاط طائرة مسيّرة تركية تابعة لسلاح الجو السعودي. وكانت المملكة قد وقعت عقداً مع شركة "فيستل" التركية المصنعة للمسيرات بقيمة ٢٠٠ مليون دولار.
يسرد السياسي اللبناني خلدون الشريف أنه مع انطلاق قطار ثورات "الربيع العربي" في عام 2011، أصيبت العلاقة بين تركيا، والسعودية بتصدعات كثيرة، وشكّل صعود الأمير محمد بن سلمان إلى ولاية العهد وقراره الالتحام سياسياً مع ولي عهد الإمارات محمد بن زايد عام ٢٠١٧ وقطع العلاقات الخليجية مع قطر في تلك السنة محطةً بارزةً في سياق تردي العلاقات بين تركيا والسعودية والإمارات، ولم يكد ينطوي العام التالي حتى حصلت جريمة مقتل الصحافي السعودي جمال خاشقجي في القنصلية السعودية في إسطنبول، حيث بلغ التوتر بين السعودية وتركيا مرحلة غير مسبوقة.
اختلف الأتراك والسعوديون حول العديد من الملفات الإقليمية: من سوريا إلى ليبيا إلى شرق المتوسط ففلسطين وصولاً إلى حرب إقليم ناغورنو قره باخ بين أذربيجان وأرمينيا. ومن نافل القول إن البلدين مختلفان حول العلاقة مع إيران، فضلاً عن الخلاف الأساسي (الفكري ـ الديني) المتصل بالتبني التركي (والقطري ضمناً) لكل موجة "المد الإخواني" التي شهدتها المنطقة في العقد الأخير.
ووفق الشريف فإن تراجع العلاقات السياسية ارتد اقتصادياً أيضاً، فمع مطلع عام ٢٠٢١ انخفض الاستيراد السعودي من تركيا ٩٢% في شهري كانون الثاني/يناير وشباط/ فبراير على التوالي، وهوى هذا الاستيراد ٩٣.٧% في شهر آذار/مارس أيضاً. كل ذلك كان نتاج حملة غير رسمية قادها رئيس مجلس الغرف السعودية عجلان عجلان في تشرين الأول/أكتوبر٢٠٢٠ بدعوته إلى مقاطعة تركيا بشكل كامل.
على مستوى الاستثمار والسياحة والتجارة. وتعد السعودية السوق الخامس عشر من حيث الحجم بالنسبة إلى الصادرات التركية من حبوب وأثاث وصلب ومنسوجات وسجاد ومواد كيمائية وغيرها. كما تظهر الإحصاءات هبوط التصدير التركي إلى السعودية من 3.2 مليار دولار عام ٢٠١٩ إلى 2.3 مليار عام ٢٠٢٠ بانخفاض بلغ ٢٤%.
وكانت مصادر مطلعة تحدثت نهاية العام الماضي عن تقارب بين تركيا والسعودية في اليمن. ولتركيا مصلحة استراتيجية في تعزيز تواجدها قرب باب المندب، إذ تقيم قاعدة عسكرية هي الأكبر لها في القرن الإفريقي في الصومال وتواجدها هناك يعزز توازنها مع حليفها ومنافسها الأقوى في المنطقة، أي إيران. وتقول المصادر إن التوتر بين بلدين كبيرين مثل السعودية وتركيا "لم يحقق مكاسب لأي منهما، وانعكس سلباً على المنطقة برمتها، وهاتان الدولتان مؤثرتان جداً في الإقليم، ومن شأن العلاقة الإيجابية بينهما أن تنعكس إيجاباً على الجوانب الأمنية والعسكرية والسياسية والاقتصادية للبلدين". وتشير المصادر ذاتها إلى وجود رغبة تركية سوف تترجم جهوداً حثيثة لترميم علاقات تركيا مع أربعة بلدان هي: فرنسا؛ اليونان؛ مصر والسعودية.
ووفق الشريف لا بد لتركيا من جهة ولمصر والسعودية والإمارات من جهة ثانية، من إجراء مراجعة شاملة تضع حساب الأرباح والخسائر في الميزان. فعودة العلاقات إلى التحسن تحقق أهدافاً مشتركة أوسع بكثير من استمرار التوتر لسنوات:
أولاً، في شرق المتوسط، تحتاج تركيا إلى معالجة تداعيات لقاء فيليا اليوناني الذي استثناها وهي تعتبر ألا حلول غازية وحدودية نهائية في منطقة المتوسط من دونها.
ثانياً، تريد مصر من تركيا متابعة مسار الحد من حضور وتمويل ورعاية نشاط الإخوان المسلمين المصريين على أرضها.
ثالثاً، تريد تركيا من الدول العربية، كما من فرنسا، التوقف عن دعم حزب العمال الكردستاني، عسكرياً ومالياً وسياسياً.
رابعاً، تحتاج تركيا والسعودية ومصر والإمارات إضافة إلى قطر إلى تقديم رؤية موحدة إزاء العديد من قضايا المنطقة والإقليم، وبينها قضايا الإرهاب وأدوار بعض القوى الإقليمية والدولية.
خامساً، لن تستطيع أية دولة من الدول الأربع هز ركائز نظام أي منها.
المصريون والأتراك.. الإخوان في الثلاجة
وفق مصدر متابع فإن المصريين والأتراك توصّلا حتى اللحظة لنقاط مشتركة ومرتكزات واضحة ليس من السهل التراجع عنها في المدى المنظور، وخاصة أن وفداً تركياً سيزور القاهرة خلال الأيام القادمة على مستوى مساعدي وزير الخارجية، وسيبحث الوفدان سبل استمرار التواصل وتذليل العقبات والإعلان عن هذا اللقاء جاء بعد ساعات من الإشادة التي أعلنها رئيس الوزراء المصري مصطفى مدبولي للرئيس التركي في قيادة منظمة التعاون الإسلامي في ظل الإدارة التركية العام الماضي.
ووفق مصدر مطلع فإن الجانبين سيبحثان في القاهرة ملفات مشتركة في البحر المتوسط وإمكانية قيام تركيا بدور لحل أزمة سد النهضة مع أديس أبابا والتحديات المشتركة الأخرى كجماعة الإخوان المسلمين والتي تتخذ من إسطنبول مقراً لها خلال الأعوام السابقة، ووفقاً للمصدر فإن ما أصاب الإخوان من ضربات وصولاً إلى إدارج تنظيمات محسوبة على "الإخوان" مطلع هذه السنة في لوائح الإرهاب الأميركية، أدى إلى إرباك التنظيم نفسه الذي بات يشعر بأن الخناق يضيق حوله أمريكياً وأوروبياً وعربياً، وبالتالي بات عليه أن يكون أكثر واقعية وأن يتخلى عن فكرة السلطة سواء في مصر أو في غيرها من الدول.
وبحسب المصدر فإن الإخوان قرروا الذهاب باتجاه تخفيف الضغط عن الجانب التركي من خلال سعي قيادات الصف الأول للسفر خارج تركيا -الولايات المتحدة أو كندا أو بريطانيا- فيما تسعى تنظيمات إخوانية أخرى في دول مختلفة لخطب ودّ الجانب العربي وتحديداً حركة حماس والتي أعادت انتخاب خالد مشعل رئيساً لإقليم الخارج بعد 4 سنوات على إقصائه مقابل سطوع نجم تيار الأمن والعسكر في الحركة القريب من إيران والذي يسعى لإعادة العلاقة مع نظام الأسد، فيما يعتبر انتخاب مشعل انتصاراً لتيار معتدل في الحركة كان يقيم علاقات جيدة مع بعض الدول العربية فيما يحافظ على مسافة من التقرب لنظام إيران المخاصم للعرب.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.