"عطوفة الأخ، أما وقد دخل الأردن الآن مئويته الثانية بثقة كبيرة وآمال عريضة، وبعد أن أنجزنا الكثير من أسباب التمكين لمؤسساتنا صاحبة الاختصاص التشريعي الأصيل، في التعامل مع بعض القضايا التي أشرتُ إليها، وخاصةً القضايا المرتبطة بالتثبت من سلامة الاستثمار وسلاسته، وشرعية مصادر التمويل، وبعد أن استكملنا بناء مؤسسات ترسخ النزاهة وتحارب الفساد، وأنجزنا عملية تطوير لمؤسساتنا الرقابية المنصوص عليها في الدستور وغيره من التشريعات، مثل ديوان المحاسبة، فضلاً عن تطوير منظومتنا القضائية، فإنه يتعين على هذه المؤسسات والجهات أن تتصدى فوراً لاختصاصاتها الدستورية والتشريعية الأصيلة هذه، لتتحرر دائرة المخابرات العامة من العبء الكبير الذي نهضت به، مضطرة ومشكورة ومدفوعة بالحرص العميق على بلدنا الغالي، في هذه المجالات الخارجة عن اختصاصاتها، لسد الثغرات، ولكي تتفرغ للعمل الاستخباري المحترف بمفهومه العصري الشامل".
– من رسالة الملك عبدالله الثاني إلى مدير المخابرات العامة.
في هذه الرسالة التي تمّ حشد الكثير من الأقلام لتأييد ما ورد فيها، وللتأكيد على أهمية التحوّل في دور مؤسسات الدولة نحو القيام بواجباتها، التي كانت دائرة المخابرات تقوم بها، يبدو شيءٌ من التغيير في نادي الحكم يلوح في الأفق، خصوصاً والنّظام السياسي يعيش ما يشبه العزلة في ظلّ مشاريع التطبيع المباشرة والعملاقة التي باتت هي الرائجة في المنطقة، وفي ظلّ إدارةٍ أمريكية جديدةٍ -ولكنها تقليدية- تسعى أنظمة المنطقة لكسب ودّها، ولكنّها كذلك رسالةٌ ذات دلالاتٍ هامةٍ على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي في الدولة، خاصة إذا أخذنا بالحسبان إصرار النّظام على البقاء وفياً للسياسات النيوليبرالية، على الرغم من عدم قدرتها على انتشال الأردن من أزماته الاقتصادية والاجتماعية.
هذه الرسالة ومن قبلها الأوراق النقاشية التي أصدرها الملك سابقاً، والتي تتواكب مع انعدام أفق التغيير في شكل الحكم لدينا، يجعلنا نتساءل عن جدوى ومن ثم أثر هذه الرسائل في إحداث تغييرٍ جوهري في نادي الحكم، وهل ما يقوم به الملك الحالي هو جهدٌ خالصٌ لدمقرطة شكل الحكم والتخلي بالتالي عن تقاليد راسخةٍ انطلقت مع تأسيس الإمارة قبل قرنٍ من الزمان، وما تزال هي الطاغية في تحديد من يدخل نادي "نخبة" الحكم ومن يغادره.
إننا نشهد هذا ونحن ندخل مئوية الدولة الثانية، وكل أركان الحكم تجهّز نفسها لذلك، معززةً بالكثير من الدعاية والترويج السياسيين لمئويةٍ أكثر إشراقاً وتميزاً من سابقتها.
كل هذا يتطلّب مراجعةً لأداء مكونات نادي الحكم عبر تاريخ الإمارة ومن ثم المملكة، وصولاً إلى المئوية الثانية، وطرح أفق التغيير في شكل النظام السياسي موضع التمحيص، بناءً على معطيات الواقع لا "المدّعى".
ونهايةً، سيتم عرض رؤيةٍ ما للأمل بواقعٍ من الممكن أن يتقدم ببلدنا نحو الأمام، في مواجهة التحديات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي تواجهه.
تأسيس نادي الحكم
أعلنت حكومة (الموظف) الخصاونة بداية العام عن خطتها لإحياء مئوية تأسيس الدولة، وحددت يوم الحادي عشر من أبريل/نيسان عطلةً رسميةً للاحتفال. تتضمّن الخطة الحكومية كماً كبيراً من الفعاليات والاحتفالات، بالرغم من تفشي وباءٍ عالمي، نحن في أسفل سلم التعافي منه! ولكن لمَ حددت الحكومة هذا التاريخ لتدشين الاحتفالات بالمئوية؟
في الحادي عشر من أبريل/نيسان من عام 1921 تشكّلت الحكومة الأردنية الأولى (مجلس المشاورين) على إثر اتفاق الأمير -آنذاك- عبدالله بن الحسين مع وزير المستعمرات البريطاني ونستون تشرشل في مؤتمر القدس، على إقامة حكومة وطنيةٍ في شرقي الأردن برئاسة الأمير عبدالله، تمهيداً لإنشاء حكمٍ عربي في الإمارة تحت رعاية (انتداب) بريطانيا العظمى(1).
أوكل الأمير رئاسة المجلس (الحكومة) لرئيس حزب الاستقلال السوري رشيد طليع، وهنا بدأت أولى خطوات تأسيس نادي الحكم، مع تعاونٍ هامٍ بين الأمير وما سيصبح تالياً، ومن ثم لاحقاً، جماعةً وظيفيةً تشكل أحد أهم أعمدة نادي الحكم وأكثرها وفاءً لرغباته وسياساته.
"إنني سأزور شرقي الأردن زيارةً احتلاليةً، وأنا عينت من الحكومة العربية الملكية بسوريا، وإنني أنوب الآن عن جلالة الملك فيصل ويجب أن تعلم ذلك، وإنّه لمن واجبك تلقي الأوامر من معان وإلا فسيعين غيرك محلك"(2).
هكذا ردّ الأمير عبدالله على رسالة متصرّف السلط مظهر رسلان إليه، حيث كانت شرقي الأردن بالنسبة إليه تمثّل بوابة عبورٍ نحو تحرير سوريا من الاستعمار الفرنسي، تمهيداً لإقامة حكمٍ عربي فيها بزعامة شقيقه الملك فيصل (أو هو نفسه: أي الأمير عبدالله)، وهو الهدف الذي تعاضد عليه مع الأمير زعامات حزب الاستقلال السوري، حيث شكّلت شرقي الأردن ملتجأً لهم لإعداد هجماتهم ضد المستعمر الفرنسي، قبل أن يجبر الانتداب البريطاني الأمير وحزب الاستقلال على التخلي عن فكرة تجاوز الإمارة نحو سوريا كبرى كانت تشكل حلماً للأمير، خصوصاً بعد إنهاء الحكم الهاشمي في الحجاز على يد آل سعود. ولكنّ الأمر لم يشكّل عائقاً أمام تشكيل نادي الحكم في الإمارة، مع بقاء طموحات الأمير التوسعية متقدةً، ومع تحوّل قيادات حزب الاستقلال -من رضخ منهم- إلى جماعةٍ وظيفيةٍ في نادي الحكم.
كان عهد الإمارة، وحكم الأمير عبدالله للبلاد، أقرب ما يكون لفترةٍ تجريبيةٍ مهّدت لاحقاً لشكل الدولة المستقرّ، وحتى لتداول السلطة والنفوذ في إطارها، وبقي الأمير المدعّم بالرعاية والحماية الاستعمارية البريطانية متجاهلاً أهل البلاد، خصوصاً في ظلّ نزعاتهم الانفصالية (تمرّد كليب الشريدة في الكورة) والانقلابية (ثورة العدوان)، حيث عدّ الأمير إعطاء أهل البلاد فرصةَ دخول نادي الحكم مخاطرةً قد تودي بعرشه، وهو ما صبغ حكمه على مدى ثلاثة عقودٍ ترافقت مع تأسيس الدولة.
ترسيخ القواعد
لم تنتهِ ترويكا الحكم (الأمير ومن ثم الملك عبدالله، الانتداب البريطاني، زعامات حزب الاستقلال ومن ثم الجماعة الوظيفية المنبثقة عنه) بوفاة الملك عبدالله، عقب ضمه الضفة الغربية إلى شرقي الأردن، تحت مسمىً واحدٍ، هو: المملكة الأردنية الهاشمية. حيث لم يكن بمقدور الملك طلال التملّص من هذا الشكل في نادي الحكم، في الفترة الوجيزة التي تسلم فيها السلطة، قبل أن يؤول العرش لابنه البكر الحسين، الّذي دشّن مرحلةً جديدةً في تاريخ البلاد، محدثاً بعض التغييرات في شكل الحكم ورواده.
كان الدور الاستعماري مركزياً في تثبيت دعائم حكم العائلة الهاشمية في الأردن، بالذات مع تأسيس الإمارة وإمساك الأمير عبدالله بخيوط حكمها، ويتّضح هذا في أكثر من حدثٍ مفصلي، من أبرزه تصدي قوات الجيش البريطاني لهجمات الإخوان (قبائل متحالفة مع آل سعود) على شرقي الأردن، ناهيك عن إخماده لعددٍ من حركات التمرّد الداخلية، بدايةً بقيادة فردريك بيك (بيك باشا)، وصولاً لسطوة وهيمنة جون باغوت غلوب (كلوب باشا)، ولكنّ هذا الدور لم يكن بلا ثمنٍ، خصوصاً بعد تمكّن البريطانيين من تطويع البلاد ووأد أي حركاتٍ تحرريةٍ فيها، إذ كان الثمن إبقاءها تابعةً للهيمنة الاستعمارية حتى بعد إعلان استقلال البلاد عام 1946، حيث بقيت المؤسسة العسكرية تحت إمرة "أبو حنيك" وضباطه لعقدٍ آخر من الزمان.
فيما كانت زعامات حزب الاستقلال تتحوّل إلى جماعةٍ وظيفيةٍ، شهد عهد الملك عبدالله تغييراً طفيفاً بإدخال بعض الشخصيات من خارج الحزب إلى نادي الحكم، ولكن دوماً عبر اختياراتٍ من خارج أهل البلاد، لا ترتكز إلى حواضن اجتماعيةٍ، ولا تشكّل خطراً على العرش، وأكثر من ذلك تربطها علاقاتٌ جيدةٌ بالسلطات الانتدابية الاستعمارية وبالجار الصهيوني، على غرار إبراهيم هاشم وسواه.
احتكار نادي الحكم
شكّل قرار الملك الحسين بتعريب قيادة الجيش وطرد كلوب باشا، بارقة أملٍ للقوى الوطنية في مطلع حكمٍ كان يحدو الأردنيين فيه طموحٌ كبيرٌ باستلام زمام أمورهم فعلياً وعملياً، بعد زوال الاستعمار وتحقيق الاستقلال الناجز، وهو ما عززته انتخابات عام 1956 والتي أسفرت عن نجاح وتفوّق الأحزاب والقوى الوطنية، ومن ثم تكليف الملك لزعيم الحركة الوطنية ورئيس الحزب الوطني الاشتراكي سليمان النابلسي تشكيل حكومةٍ ائتلافية.
استطاع الملك الشاب كسب تأييد ضباط الجيش الكبار (الضباط الأحرار) من جهةٍ، وترضية قوى المعارضة من ناحيةٍ ثانيةٍ، بعيد فشله في الانضمام إلى حلف بغداد الإمبريالي الذي جوبه برفض شعبي ووطني كبير. أكثر من ذلك، أقنع النابلسي الملك بإلغاء المعاهدة البريطانية الأردنية، واستبدال المعونة البريطانية بأخرى عربية. هنا باتت تلوح في الأفق بوادر تغييرٍ ما قد يطال نادي الحكم في جوهره وجذوره.
لم يدم شهر العسل هذا طويلاً فكان انقلاب القصر الشهير، إذ أطاح بتنظيم الضباط الأحرار في الجيش، وأسقط حكومة النابلسي الوطنية، وأعلن الأحكام العرفية وحلّ الأحزاب والنقابات، وأكثر من ذلك حوّل ولاء نادي الحكم من بريطانيا إلى القوة الإمبريالية الصاعدة: أمريكا، عبر اعتناق مبدأ أيزنهاور وتبني مشاريع النقطة الرابعة.
صحيحٌ أنّ الملك الحسين هو من قاد الانقلاب والتحوّل عن الخيار الديمقراطي نحو حكمٍ دكتاتوري متفردٍ، ولكنّ هذا الأمر ما كان ليحدث لولا دعم الإمبريالية الأمريكية المنشغلة بالحد من النفوذ السوفييتي في الوطن العربي والعالم أجمع، دون إغفال بقايا الرجعية المنتمية لنادي الحكم في عهد الملك عبدالله، وعلى رأس هؤلاء سمير الرفاعي وتحديداً بهجت التلهوني الّذي كان بيدق حياكة المؤامرات ضد حكومة النابلسي.
لأكثر من ثلاثة عقودٍ استمرّ الحكم محتكراً من قبل التحالف الذي أسقط الخيار الديمقراطي، مدعوماً من راعٍ أمريكي أغدق الكثير على من كان وفياً لأهدافه الإمبريالية، ولكن مع ظهور دورٍ ما لمن قبل بالأمر الواقع من أبناء البلد، خصوصاً بعد سعي الملك الحسين لكسب ولاء وثقة أبناء العشائر الذين دخلوا نادي الحكم بعد انتظارٍ طويلٍ، مع بقاء التنويع في الخيارات قائماً للملك الذي اشتد عوده، وهو ما خلق التوريث السياسي لدى عددٍ من العائلات السياسية، مع بقاء إمكانية الاستعانة بالجماعة الوظيفية المنبثقة عن حزب الاستقلال قائمةً كذلك.
استفاد الملك الحسين من آليات المعسكر القومي في سوريا والعراق ومصر، رغم عدم انضمامه لهذا المعسكر، خصوصاً في تبنيه خيار أمننة المجتمع عبر إطلاق ذراع جهاز المخابرات العامة في المجتمع والسياسة والاقتصاد، مدعماً بأدوات واستراتيجيات وكالات الاستخبارات الأمريكية، وهو ما عنى انضمام عنصرٍ جديدٍ لنادي الحكم، شكّل أحياناً جسر عبورٍ لبعض ضباط الدائرة للوصول إلى نادي الحكم وتحقيق ما يأملونه من مغانم.
بالإضافة إلى ولوج الدائرة نادي الحكم، ابتدع الملك الحسين أدواراً هامةً في بعض الأحيان للديوان الملكي، الّذي مثّل حيناً أحد أركان الحكم، وأحياناً مثّل أداة دعاية النظام السياسي، وفق ما يشاء الملك، فقد كان يحدد الأدوار التي يقوم بها الديوان بناءً على المعطيات المحلية والخارجية.
وهم التحوّل الديمقراطي
شكّلت الأزمة الاقتصادية التي عصفت بالأردن مطلع عام 1989 نافذةً لإحداث تغييرٍ في نادي الحكم، خصوصاً في ظل سعي النظام السياسي الذي يقوده الملك الحسين نحو اللحاق بركب التحوّل النيوليبرالي، والنّظام العالمي الجديد الذي تنفرد أمريكا بقيادته في ظل انهيار المعسكر الاشتراكي وتفكك الاتحاد السوفييتي.
هذا السعي الملكي الذي أدى لتشجيع الاستثمار المنفلت ونزع عن مؤسسات الدولة قداستها، تمهيداً للاستغناء عنها، أدى لانهيار الدينار وشح الموارد المادية لدى المواطنين، وهو ما عالجه نادي الحكم عبر رفع الأسعار وشحن الأجواء العامة.
بعيد قرار فك الارتباط مع الضفة الغربية التي يحتلها الكيان الصهيوني، وبعد سنواتٍ عجافٍ أعقبت بحبوحةً اقتصاديةً في السبعينيات، أتت هبة أبريل/نيسان عام 89 لتفرض واقعاً جديداً، تعامل معه نادي الحكم عبر إعلانه التخلي عن الأحكام العرفية وإعادة الحياة البرلمانية وشرعنة عمل الأحزاب، ولكنّ هذا الأمر اصطدم بتراجع قدرات القوى الوطنية -المنهكة في ظلّ عقودٍ من العمل السري في ظل الأحكام العرفية- على التأثير في المجتمع، خصوصاً مع تغوّل الأجهزة الأمنية على العمل العام، وتكلّس العديد من منتسبي نادي الحكم في السلطة، فكانت انتخابات عام 89 ومن ثم عودة الأحزاب بعدها، ولكن دون تغييرٍ حقيقي في نادي الحكم وشكله، قد ينعكس على طريقة تعاطي السياسة والاقتصاد في المجتمع.
انتهت الفترة الانتقالية هذه سريعاً، مع سنّ قانون الصوت الواحد وإنتاج نخبةٍ جديدةٍ دخلت نادي الحكم من بوابة وادي عربة (اتفاقية السلام مع الكيان الصهيوني)، وهي الاتفاقية الّتي عنت إحداث تغييراتٍ جذريةٍ في شكل التعاطي السياسي والاقتصادي، مع التحولات الأكثر شراسةً التي ستتمّ مطلع الألفية الجديدة مع تولي الملك عبدالله الثاني السلطة.
التداول على نادي الحكم
لم يكن أحدٌ ينتظر إزاحة الأمير الحسن -الّذي رافق الحسين في رحلة حكمه- عن ولاية العهد قبيل وفاة الملك، إذ لم يكن الأمير عبدالله بن الحسين –حينذاك- مهيأ لتولي السلطة خلفاً لوالده، ولكنّ القرار اتّخذ على أية حال، فآلت السلطة له مع توصية الحسين بإسناد ولاية العهد لأحب أبنائه إلى قلبه: الأمير حمزة، قبل أن تتمّ إزاحته عن ولاية العهد لفائدة أكبر أبناء الملك عبدالله الثاني هذه المرة: الأمير الحسين.
لم تكن المفاجأة في تولي الملك عبدالله الثاني سلطاته دون قلاقل تذكر فحسب، بل كانت أكثر من ذلك في شروع الملك في خوض غمار التجربة عبر منهجيةٍ اقتنع بها -وما يزال- فارضاً إياها على المجتمع اقتصادياً وسياسياً، إذ كانت الخصخصة والتحوّل الاقتصادي من بواكير أعمال حكومات الملك، وتحديداً حكومة علي أبوالراغب، التي أزاحت مجلس النواب من الصورة، لتخلو لها الساحة لسن القوانين المؤقتة، التي هيأت الظروف لتخلي الدولة عن أصولها، والشروع في انسحابها من أدوارها الاجتماعية عبر التحول الاقتصادي نحو السياسات النيوليبرالية، وهو ما وفّر بحبوحةً اقتصاديةً للدولة وحتى المواطنين في بداية عهد الملك، قبل أن يرتدّ كل ذلك وبالاً على المجتمع فقراً وفاقةً وبطالةً وعلى الدولة ديوناً ونمواً متباطئاً.
لم يعتمد الملك في بداية حكمه على الليبراليين فحسب لتمرير سياساته الاقتصادية والاجتماعية هذه، فهو حافظ على المداورة بين هؤلاء الليبراليين وبين الحرس القديم من البيروقراطيين المحافظين، مع إدخال نخبة وادي عربة في الصورة حيناً والجماعة الوظيفية التي خلفت حزب الاستقلال أحياناً، فيما ظلّت دائرة المخابرات تقوم بأدوارٍ هامةٍ، تجاوزتها أحياناً عبر إداراتٍ عوقبت بقصقصة أجنحتها ووصل الأمر إيداعها السجن، فيما بقي الديوان الملكي يمثّل مركز ثقلٍ من جهة الدعاية لنظام الملك الجديد، وحشد الولاء والانتماء لحكمه الناشئ، وازداد النفوذ الأمريكي في رسم السياسات وحتى في تحديد الأولويات الوطنية، في ظلّ تمويلٍ غير مسبوقٍ قامت به الإدارات الأمريكية المتعاقبة للدولة الأردنية، حيث أضحت السفارة الأمريكية لاعباً رئيسياً في نادي الحكم، مع توغل سفاراتٍ أخرى -خليجيةٍ في الغالب- تموّل الدولة وتتحرك مستغلةً قوتها الناعمة هذه للتأثير على سياساتها.
بداية القلق
نظام الرئيس التونسي زين العابدين بن علي ينهار تحت وطأة احتجاجات شعبية أشعلها بائع الخضار محمد البوعزيزي الذي قضى محترقاً، فيما تتسارع الأحداث وتتلاحق لتعمّ الاحتجاجات الشعبية عدداً من الدول العربية، التي ترزح لعقودٍ تحت وطأة حكمٍ فاسد، فيما صار يعرف بالربيع العربي.
قبل الإطاحة بنظام بن علي وهربه إلى السعودية بأسبوعٍ، تخرج مظاهرةٌ شعبيةٌ من ذيبان جنوب العاصمة عمّان، لتتبعها بعد ذلك مظاهرةٌ مركزيةٌ في العاصمة، قبل أن تتوالى التحركات والتظاهرات فيما أطلق عليه لاحقاً تسمية: الحراك الشعبي، والّذي كان قد انطلق فعلياً قبل ثورة تونس، من خلال حراك عمال المياومة وعمال ميناء العقبة، وتحديداً حراك المعلمين المطالبين بإحياء نقابتهم الممنوعة منذ أكثر من نصف قرن.
هنا التقط النّظام السياسي اللحظة التاريخية وقدم بعض التنازلات، التي لم تخمد الاحتجاجات التي ظلّت متواصلةً لأكثر من عامين، تحصّل فيها الشعب على نقابةٍ للمعلمين، تمّ البت بدستوريتها عشية احتجاجات دوار الداخلية في الاعتصام المشهود يوم 24 من مارس/آذار، بينما حاولت بعض القوى السياسية الإفادة أكثر من ذلك وتجاوز طموحها التنازلات التي قدمها النظام السياسي نحو حيازة السلطة أو على الأقل دخول نادي الحكم، كما فعل الإخوان المسلمون الذين حاولوا ضبط إيقاع الاحتجاجات ومساومة النظام السياسي على التخلي عن جزءٍ من صلاحياته، في انتظار تطور الأحداث إقليمياً.
اختتمت احتجاجات هبة تشرين الحراك الشعبي -بما هو حراكٌ ممتدٌ ومتواصلٌ- تحت وقع تطوراتٍ شتى في العالم العربي أثمرت هجمةً مرتدةً للدولة العميقة في عددٍ من دول الشعوب المنتفضة، مع دخول لاعبين جددٍ على الساحة صرفوا ببذخٍ لتحويل وجهة الاحتجاجات وتوظيفها، وأحياناً لاستدامتها استدامةً عبثيةً. وبالرغم من بقاء جذوة الاحتجاجات وظروفها الاجتماعية (الفقر، البطالة، الإحباط السياسي) قائمةً، فإنّ توقّف الحراك مثّل فرصةً لقيام نادي الحكم بردته، فكانت التعديلات الدستورية التي عزّزت صلاحيات الملك في تعيين قادة الأجهزة الأمنية بشكلٍ مباشرٍ، ووفّرت الإمكانية لوأد أي إمكانية للشروع في الإصلاح ومن ثم التغيير. كل ذلك أضحى محض خيالٍ. وتراجع الملك عن فكرة الحكومات البرلمانية التي كان طرحها سابقاً لامتصاص حماس الجماهير.
ذروة القلق
صحيحٌ أنّ النظام السياسي في الأردن قد خرج بأخفّ الأضرار من موجة الربيع العربي مقارنةً بسواه، وصحيحٌ أنّ الملك استطاع حيازة سلطاتٍ أكبر بعد هزيمة الربيع الأردني، ولكنّ هذه الأمور لم تعن للملك سوى محاولة تقليص دور كلّ منتسبي نادي الحكم، بدايةً من هجومه على البيروقراطيين الذين وصفهم بالديناصورات، مع إقصائهم عن الصورة في صنع السياسات ورسمها، والاكتفاء بإبقائهم في أدوار هامشيةٍ ووضعهم على الرف. أثناء ذلك، كانت التغييرات الدورية في قيادات الجيش والأجهزة الأمنية سمةً ميّزت حقبة ما بعد انتصار نادي الحكم في معركة الربيع، مع الاعتماد على رؤساء حكوماتٍ مطواعين ينفّذون ما يطلب منهم، دون إحداث ضجةٍ مثل تلك التي أحدثها عون الخصاونة عند استقالته، والملك لن يجد هنا خيراً من عناصر المجموعة الوظيفية إياها -تلك التي تشبه مخلفات حزب الاستقلال السوري- للقيام بالمهام المسندة إليهم بكل مهارةٍ وتفانٍ.
هذا التفرّد في الحكم لم ينتهِ عند هذا الحد، فقد استتبع تغيير الملك لاستراتيجيته في شكل الحكم الظاهر، نحو سحق أدوات الحكم التي تقوم بأدوارها في الكواليس، فحوّل رئاسة الديوان الملكي لمحض منصبٍ وظيفي يعنى بالعلاقات العامة ولا يقوم بأدوار سياسيةٍ تذكر، متخلياً حتى عن كون الديوان جائزة ترضيةٍ لبعض أقطاب نادي الحكم، قبل أن يغيّر ملامح اللعبة السياسية في رسالته الأخيرة لدائرة المخابرات، والتي عبّر خلالها عن رغبته في بقاء الدائرة على هامش الأحداث السياسية والتركيز في قيامها بالدور الأمني والاستخباراتي المنوط بها.
ولكن ماذا يعني كل هذا؟ هل سيقوم الملك فعلياً بحكمٍ فردي حقاً؟ هل ستكون علاقته بالولايات المتحدة وسياسات إدارتها هي العامل الأكثر حسماً في تحديد مساحات التحرك الاقتصادي والسياسي في الدولة؟
أم أنّ هذا القلق في نادي الحكم هو ممهدٌ لخلق نخبةٍ جديدةٍ تلج النادي وتحل مكان النخبة المطرودة؟ هل سنعيش حقاً حقبةً من الانفتاح الديمقراطي، الّذي ينتج قوى مجتمعيةً ممثلةً بحقٍ لطموح وآمال ومصالح الشعب؟
لا إجابات واضحة على هذه التساؤلات، وإن كان القلق الذي يلفّ نادي الحكم قد ينعكس انفلاتاً في سياسات الحكم، وفي علاقته بعموم النّاس، وهو ما نشهده اليوم في أزمة نقابة المعلمين، إذ تديرها الدولة بعقليةٍ انتقاميةٍ تظهر للعيان مدى الحلول المتطرّفة التي قد يصلها النّظام السياسي للتعاطي مع الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، والتي فاقمت جائحة كورونا من حدّتها.
قد يكون لتغيّر قواعد اللعبة السياسية في الإقليم دورٌ هام في تغيير نادي الحكم (الملك) لاستراتيجيته في الحكم، فنحن نشهد موجة التطبيع مع العدو الصهيوني تجاوزت الأردن وأصبحت تخرج للعلن دون أي اعتباراتٍ، وتزامن ذلك مع انكفاء الراعي الأمريكي نحو الداخل في ظلّ أزماتٍ اقتصاديةٍ واجتماعيةٍ جمة تواجه بلاد العم سام، وتعززها منافسةٌ حامية الوطيس مع التنين الصيني الصاعد بقوةٍ، وخصوصاً في ظلّ انعدام أي أفقٍ لإيجاد حلولٍ لمشاكل الشرق الأوسط المستعصية، ممّا قد يعني تقليص حجم الدعم وحتى الاهتمام الأمريكي بالأردن، وهو ما يشكّل مصدر قلقٍ كبيرٍ قد يهدد مكاسب نادي الحكم، التي اعتاد تحصيلها بواسطة علاقاته مع الأمريكيين.
هنا قد تكون بارقة الأمل في حال راجع نادي الحكم خياراته وأدرك انعدام فرص البقاء معتمداً على الدعم الأمريكي، دون قيامه تجاه الشعب بما يتطلّبه الأمر، خصوصاً والعالم بأجمعه يمر بفترةٍ انتقاليةٍ قد تفرضها الجائحة في قادم الأيام على الصعد الاجتماعية والاقتصادية والسياسية أكثر مما تفعل اليوم، إذ تكشّف للناس أكثر مما مضى خيانة النخب السياسية وفشل الاقتصاد وانهيار المنظومات الصحية وأثر انسحاب الدول من أداء أدوارها الاجتماعية تجاه مواطنيها.
هنا قد يشكل القلق في نادي الحكم فرصةً لخيارٍ عقلاني ووطني يواجه الأزمة بشجاعةٍ، لا عبر اتّباع سياسة ترحيل الأزمات وإبقاء الحال على ما هو عليه مع افتراض تحسّن الظروف من تلقاء ذاتها.
المراجع
(1) علي محافظة، تاريخ الأردن المعاصر، عهد الإمارة 1921-1946، نشر بمساعدة من الجامعة الأردنية، الطبعة الأولى 1973، ص 24.
(2) عبدالله بن الحسين، مذكراتي، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، 2012، ص 157.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.