في مشهد رأسي لمنطقة طرة بسجونها السبعة ومئات السجانين وآلاف السجناء، وأحلام لا تتحقق وأعمار لا تتوقف، وسط كل هذه المعطيات، زنزانة صغيرة تضم بين جنباتها بطل قصتنا، أضواء خافتة، وأصوات متداخلة بين سكان الغرفة، التي لم يختاروها لكنها اختارتهم، تغطي أجسادهم كل مساحة الزنزانة، ولا يبقى منها سوى ممر صغير يؤدي إلى دورة مياه غير آدمية بالمرة، فجأة يسمعون صوت خطوات زائر قادم، ربما زميل جديد يشاركهم تلك المساحة الفوضوية من كوكب الأرض، يعُم الصمت المكان ولا صوت يعلو فوق صوت مفتاح الزنزانة، يدخل السجان، فيتحول الصمت إلى ترقب وخوف، ممسكاً بورقة في يده، وعلى وجهه علامات الإرهاق من طريقه الذي قطعه من مكتب مأمور السجن، حتى زنزانتنا المقصودة، في صوت عالٍ ينادي: عبدالرحمن الجندي إفراج، "يلا هتترحل دلوقتي للقسم بتاعك"، حالة ذهول تُصيب الجميع، يحاول الجندي أن يجمع شتات نفسه قبل الرحيل الأخير، من بعيد ينادي عليه صديقه أيمن موسى.. يا جندي "إوعى تنسى عهد الأصدقاء يا صاحبي".
كيف تتغير الحياة من بعد كلمة إفراج؟
"السجن بده صبر، الصبر زين" بكلمات قصيرة لخص الأسير الفلسطيني منصور شحاتيت رحلته داخل سجون الاحتلال طيلة 17 عاماً، بعد أسره في مارس/آذار 2004، في عمر الثامنة عشرة، ليقضي زهرة شبابه في الزنازين الانفرادية، خرج شحاتيت بعدما فقد أشياء كثيرة؛ ليس شبابه فقط، بداية من فقدان الذاكرة، وحتى خسارة اتزانه النفسي، لكن هل تبقى الحياة كما هي بعد سماعه كلمة إفراج؟ يقول شحاتيت: "مصدقتش إني طلعت من السجن، مش عارف، مصدقتش، فرحة كبيرة".
خلال سنوات الاعتقال، يسمع المعتقل كلمات لا عدد لها وكلها بالغة الأثر في نفسه وفي حياته، بداية من كلمات الإيراد، نيابة، تجديد، تأجيل، استئناف، زيارة، تأديب، غرفة مشورة، 45 يوماً، الزيارة انتهت، وغيرها الكثير من الكلمات يعيشها المعتقل من يوم اعتقاله وحتى عودته مرة أخرى لبيته، عبر رحلة طويلة من الأيام والكلمات، ورغم قيمة كل كلمة منها، فإن هناك كلمة أخرى تعادلها جميعاً، تصبح فرقاناً بين موت وحياة، وبين ألم وأمل، يطرب لها كل من يسمعها، سواء سبق ذكرها باسمه أو لا، كلمة إفراج تعطي لصاحب النصيب فرصة جديدة للحياة، ومحاولة أخرى للنجاة قبل أن يصيبه الجنون خلف الأسوار، تلك الكلمة التي يحاول عبدالرحمن الجندي أن يسمعها صديقه أيمن موسى، فتتحول السنوات القادمة في حياته، إلى حياة فعلاً.
نملك الخيار.. وخيارنا الأمل
على مدار أيام نشطت حملة إلكترونية من أجل الإفراج عن الشاب المعتقل أيمن موسى بعد قضائه ٨ سنوات في سجون مصر، من أصل 15 عاماً حُكم بها عليه في إحدى قضايا التظاهر التي تعود لعام 2013، الحملة التي أشعلها صديقه عبدالرحمن الجندي، لمحاولة منحه فرصة جديدة للحياة والاكتفاء بسنوات عمره الثماني التي ضاعت داخل المعتقلات، اختار الجندي الجانب الإنساني لقضيته فشارك معه العديد من النشطاء والمشاهير، في ظاهرة جديدة ربما الأولى داخل مصر الآن، وربما تؤدي في نهاية المطاف للإفراج عن أيمن موسى، بفضل تلك الحملة الصادقة التي أطلقها صديقه، لتؤكد لكل الأطراف السياسية المتنازعة والمتصارعة، داخل وخارج مصر، أن في نهاية المطاف نوراً وليس حريقاً.
"وتهدينا الحياة أضواء في آخر النفق.. تدعونا كي ننسى ألماً عشناه.. نستسلم لكن لا ما دمنا أحياء نرزق.. ما دام الأمل طريقاً فسنحياه".
عبدالرحمن الجندي.. مخلص رقيق إن قال فعل
بينما كان محمد بن مناذر يمشي مع الخليل بن أحمد الفراهيدي، فانقطع حذاؤه، فخلع الخليل حذاءه وسار حافياً، فسأله بن مناذر ما تفعل؟ فقال: أواسيك الحفاء. في مصر ليس من المقبول الحديث إلا فيما تقرره بعض الأجهزة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، فاليوم نتحدث عن الأهلي والزمالك، وغدا عن فنان مشهور، وبعد غد ربما يحدثنا الإعلامي عمرو أديب عن تدهور الحريات العامة وانعدام حرية الصحافة في الولايات المتحدة الأمريكية، وفي بيئة هكذا يصبح الحديث عن معتقل وإطلاق حملة للإفراج عنه، من المستغرب على آذان المصريين، لكن عبدالرحمن الجندي يحاول أن يواسي صديقه الحفاء، وربما يقاسمه الحرية قريباً، وفي كل الأحوال يبقى الجندي لا يعرف الكلل مخلصاً رقيقاً إن قال فعل، ويبقى عهد الأصدقاء بينهما هو وقود تلك المحاولة الصادقة.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.